في أول الغياب سيبحثون عنك؛ لأنّك كنتَ ساطعًا بما يكفي لأن يراك الجميع، كما يرون أشياءهم التي اعتادوها. لكنك إذا عدتَ للسطوع، ثم الغياب من جديد، لن يفتقدوك بنكهة الفقد الأول نفسها؛ فترتيب الأماكن وهي خاوية أسهل بكثير من ترتيبها وهي مزدحمة! الغياب لا يُستهلك، ولا يجيء إلا مرة واحدة؛ ليكوّن ذاكرته الخاصّة. ما عداه لا يعدو كونه مجرد استحلاب لحدث مكرور، سيبدو سَمِجًا في مجمله. (2) في الغياب.. أقفُ كوردة انتُزعتْ من حقلها. وغُلّفتْ بورق (السولفان) الفاخر. تبث الحبَّ والعطرَ. وهي محجوبة عن الهواء!! (3) أيقنتُ بأنّ الموت الحقيقي ليس لمن هم تحت الثرى؛ فهؤلاء قد يدفنون، ويبقى ذكرهم حيًّا. الموت الحقيقي: أن تكون منسيًّا وأنت حيّ! أن تكون نكرة, لا تنفع, ولا تضر! هذه الحقيقة أدركها أسلافنا فقال حكيمهم: «إذا أنت لم تنفع فضر فإنما يُراد الفتى كيما يضر وينفع» وبغض النظر عن قبولنا لهذه الحقيقة, أو رفضنا إياها.. على قدر الهمة يكون الاختيار! الفاشلون وحدهم سيختارون «فضر» لصعوبة «تنفع» عليهم. (4) وجوه الراحلين ما عادت تنادي الحنين في داخلي! حتى ذكرياتهم التي يقف لها الوجدان تبجيلاً ما عادت تثير شجني! أنا لم أكرههم! لكنني تألمت؛ حتى استنفدت كلّ طاقات؛ فما عدت أشعر به كالسابق! (5) البكاء نعمة! يُطّهِرُ الرّوح من رواسب الأوجاع (وقتيًّا) (مخدر)، نلهو به عن الوجع الحقيقي؛ لانشغالنا بعمليّة عن عمليّة أخرى! لكنه سيكون نقمة عندما لا نجد المساحة الكافية لمزاولته! (6) أولئك الذين يُجبرون على الرحيل من حياتنا سيحزنون قليلاً، وربما طويلاً؛ قبل أن يدركوا أنهم كانوا يسيرون على نفس الطريق, الذي ظنوا أنهم غادروه, لمحطة أخرى أكثر نضجًا. أكثر بهجة. محطة ستجعل من ذاكرتهم تجاهنا إما ساخرة، وإما ناقمة! (7) تركوا ذاكرة نديّة بهم، واختفوا وراءَ المغيب. كلّ الذين عَبرتُهم، أعادتْهم الأيام؛ ليبللوا روحي بوفائهم، إلا هُم!! (8) صديقة الروح سارة* أسرجوا لك محطتك الأخيرة بالبياض. سجّوكِ, وأعدوكِ؛ لنقبلك قبلة الوداع. كنتِ ملفوفة بالبياض, إلا وجهكِ المبيّض. ذاك الوجع الذي كنت تأنين منه كلّما دعست الممرضة الإبرة في شريانكِ, قبل رحيلكِ, لم يعد يؤلمكِ الآن! كنتِ نائمة, لا يزعجك شيء, لا يزعجك أحد. لا التكييف الذي كنتِ تشكين بردوته لي, ولا الإبرة التي لونت بياض ساعدك بألوان قاتمة توجع القلب. عيناك اللتان جحظتا من تضخم الورم ما عادتا كذلك يا سارة! كل ما فيك كان معطلاً! لكنك عدتِ سارة التي أعرفها, والتي كانت تصطحبني كل صباح لمصلى الكليّة؛ لنحضر الدروس هناك. ** ** ** * سارة البديع - رحمها الله - صديقتي التي أحبها الله فمحصها قبل أن يختارها لجواره. - د. زكية بنت محمد العتيبي [email protected]