هل كبرنا إلى الحد الذي ننعى فيه بعضنا؟... قلت ذلك وأنا أقرأ حزن أخي الصديق علي العلياني على صديقه، كما نعي البقية من أصحابه المقربين. حتما ليس بعد، فنحن دائما صغار على الموت، لكن الموت لا يكترث لمعادلاتنا ولا رؤيتنا التقليدية حوله. يصفعنا ويرحل حتى دون أن نعالج وحدتنا، نلملم أشياءنا، نرتب حقائبنا، نغادر الفندق، نرسل كلمة وداع، نتصالح أو نعترف، نقرأ بريدنا الإلكتروني، نراجع قائمة أعمالنا ومواعيدنا، نطالع رسائل التواصل ونشرة الأخبار المتعبة بالقتل والكراهية، أو حتى ببساطة نغلق جهاز الهاتف!. مع التكرار قد يفقد الوجع شخصيته، لكن لا يفقد الموت شخصيته.. في كل فقد يتغير وجه الحياة.. نتغير.. وما أشد أن ترى، كما قال اللورد النبيل عثمان العمير يوما، أجزاء من جسدك وذاكرتك تتساقط برحيل أصدقائك وأحبابك.. لكن لم يظهر علاج علمي للموت بعد كما انتظر اللورد عثمان، فهو ما زال يقضم ذاكرتنا وخلايا عقلنا بشهية مفرطة، لنذوي ونذوق طعم الموت المر مرات حتى قبل أن يأتي. قبل نحو خمس سنوات، دار بيني وبين أخي العزيز سعود الدوسري رحمه الله، في دبي، حوار حول تجربته. ولا أعني حرفيا تجربته الإعلامية فحسب، وهي غير الخافية على الجميع، هو الذي شكل علامة فارقة في انطلاقات الإعلام السعودي. بل لتجربة أخرى مختلفة بصفته شابًا وإعلاميا سعوديا مر بمرحلة الجيل الأسبق بتفاصيلها وتداعياتها. سعود الدوسري مع صديقه محمد فهد الحارثي، خلال حفل السحور الذي دعت اليه مجلة سيدتي في رمضان 2015 وهذا الموضوع والمرحلة هما محور بحثي واهتمامي الذي أنوي أن أنجزه في كتاب قريبا. وكنت أحدث النفس قبل أسابيع فقط أني سأخبره أنني أنوي نشره أخيرا على إيلاف، لكنه للأسف رحل وعاد مع صديقه الوفي محمد فهد الحارثي إلى أرض الوطن في رحلة لا تشبه الرحلات أبدا. وقد طلب مني الأستاذ عثمان العمير عشية رحيل سعود نشر بعض ما في الحوار الآن.. هو الذي كان من المفترض أن يجري سعود معه حوارا آخر قريبا، بعد الحوار الشهير الذي أجراه معه في مراكش قبل سنوات. لكن لقاء الفجر الباريسي الذي جمع عثمان وسعود كان الأخير. وكأنما باريس تختار نجومها وتلتقطهم بعناية وأناقة تشبه ما فيها، كيما تسجل اسمها في سجل الوفيات الباذخ. سعود الدوسري يحاور عثمان العمير أنا الغارقة في المواعيد المؤجلة، والنوايا الموضوعة على الرف، والقائمة الطويلة كقطار، أتمنى أن يقرأه سعود الآن على "إيلاف". لكن النهايات تشبه أصحابها، لا سيما إذا جاءت فلسفية، مباغتة، صادمة. وبين الصدمة والبكاء حالة شتات وخسائر فادحة. رحيل سعود لم يكن حزينا فحسب بل "مؤذيا"، مؤذيا جدا، وكأنما زرع قرنفلة سوداء حزينة في القلوب ورحل. ورثاء سعود لا يمثل رثاء أخ أو صديق أو زميل عزيز فحسب، بل هو أشبه برثاء مرحلة مشعة من تاريخنا الإعلامي السعودي، وكأنما أغلقت ستائر المسرح وأطفئت الأنوار، وكأنما ماتت المرحلة ومات العمر الجميل، ذلك الذي كنا فيه ورودا للتو تتفتح على الحياة، نتابع فيه صاحب الصوت الفخم على mbc fm، ونفرح بصور الإعلامي الوسيم بشنبه الدقيق الطري على صفحات المجلات. إلا أن بعض الأشخاص يأتون بالقطعة، كمنتج حصري لا يتكرر. رحل سعود وحيدا وهذا ما يشكل أقسى صورة للوجع.. جاء رحيله عاصفا على غير عادة شخصيته الربيعية. ولمن يتابع شخصية سعود عن قرب، سيعرف تأثره الواضح بتفاصيل شخصية صديقه الأمير بدر بن عبدالمحسن. تبرعت بمكافآتي للأستاذ لطالما اعتقدت أن المدن الصغيرة تنجب أبناء يسلكون الطرق التي لا تمشطها أقدام المشاة. تيقنت من ذلك من تجربة ابن الدلم التابعة لمحافظة الخرج (70 كيلو جنوبالرياض)، الابن الذي اكتشف المدينة المجاورة المكتظة مراهقا في سنه السابعة عشرة، يقول سعود "كنا نعتقد حتى ذلك الوقت أن كل القصور الموجودة في الرياض يملأها الفساد والفجور حسبما كنا نسمع في الندوات الدينية، وما عُبئ به رأسي الصغير، لكن ذلك لم يكن صحيحا عندما انغمست وتعاملت مع فئات مجتمعية مثل طبقات الأمراء وأصحاب الذوات والمال والشهرة". الدوسري مع د. عبد اللطيف آل الشيخ في باريس قبل أيام من وفاته وكان يقول عن مرحلة جيله الأسبق "نحن جيل بفرص محدودة، الفن والإعلام كانا مرفوضين أصلا بالنسبة إلى عائلتي التي كانت تعتقد أن هذا "يقلل من قدرك اجتماعيا". كانوا لا يرون قيمة لمذيع. أن يكون الشاب خطيب مسجد، مؤذنا أو حتى مدرس رياضيات كان أهم بكثير من أن يكون إعلاميا ناجحا يناقش قضايا المجتمع ويعيش همه، أو حتى مثقفا أو كاتبا". ولد سعود في 24 سبتمبر من عام 1971. آخر العنقود لم يكن طفلا مدللا، فقد سعود والده في سن السادسة. وقد انضم إلى مدرسة تحفيظ القرآن، ومن ثم المعهد العلمي في المرحلتين المتوسطة والثانوية، يقول "دراسة القرآن الكريم إضافة لكونها مطلبا عائليا فهي مطلب ديني واجتماعي، ويترافق معها التجويد والخطابة". إلا أنه يستأنف شارحا الظروف "في الثمانينات، كان "الشجن" موضة الصبا وكنت أناوش أشرطة الأغاني وأتراجع. وقد حاولوا إيجاد بدائل لنا، وكان البديل للأغنية هو الإنشاد. لكنني لاحقا صرت أستمع إلى الغناء. لم أكن حريصا جدا أن أستمتع بها. هل هو خوف أو لأنها مرفوضة اجتماعيا؟ لا أدري. لم أحرص عليها سوى في فترة مراهقات الحب العابر التي نعيشها والتي تستمر أشهرا معدودة. نرى فتاة من بعيد ونتعلق بالأغاني وكأنها معنا وتشعر بنا. وكنت أتراجع بعدها وأخاف الله وأقول لا هذا حرام". في فترة التسعينات، كان الجهاد هو المهيمن على الأفكار، كان مثل صرعة من صرعات الموضة، طالت شبابا كثرا بصفتها الخيار المفضل والسائد. كذلك سعود، لم يرحل خارج الحدود ولم يخرج تماما عن النص، لكنه يقول "غبت عن المدرسة في الصف الثالث ثانوي لمدة شهرين لأسباب خاصة. وخفت من الرسوب في بعض المواد خاصة تلك التي تتطلب الحفظ، وهي المشكلة بالنسبة لي. لذا اضطررت لمجاملة بعض المعلمين كي أنجح. وكان لدينا أستاذ أفغاني. ولكي أكسبه في صفي تبرعت له بمكافآتي الشهرية من المدرسة التي تصل إلى 600 ريال تقريبا في الشهر وذلك للإخوان المجاهدين. وكان المبلغ يعني الشيء الكثير ذلك الوقت. قال المدرس "والله بادرة خير منك يا أخ سعود"، وبالفعل كان رؤوفا بي في الامتحان. وفي هذه المرحلة تحديدا تشكل لدي هم الإعلام واختلطت كثيرا بالإعلاميين". بين الأشرطة المجانية والمحاضرات لم تشذ فترة الشباب الأول لسعود عن أبناء جيله. عاش كل مراحل النزعة يقول "لم يكن هناك فضائيات ولا مجالات متاحة، كان كل المتاح من لون واحد. كان السائد وقتئذ أشرطة الشيخ أحمد القطان وعبد الحميد كشك، وكل المحاضرات التي توزع وتهدى بالمجان. وكان تأثير ذلك بطبيعة الحال على الجيل ككل. إلا أن أحدا لا يريد أن يكون خارج هذا التيار، لأنه حتما سيكون في الظل. بالطبع كان مغريا أن تكون موجودا اجتماعيا. في الحقيقة لم يكن هناك تيار آخر أصلا لنختار أحدهم. لكنني لم أنغمس فيه كثيرا ولا يمكن أن أنكر أنني تأثرت به بشكل أو بآخر. حاولت أن أكون موجودا من خلالهم، لأنهم هم المسيطرون على السائد وعلى المجتمع". الغذاء الأخير مع صديقه محمد فهد الحارثي قبل يوم من وفاته انتقل سعود إلى الرياض، واستمرت الحياة بنغماتها التصاعدية، يقول "كنت إنسانا عاديا أحضر الدروس وأمارس حياتي كشاب عادي. كان للأسف كثير من المعلمين في المعاهد العلمية يتبعون النشاط اللا منهجي وهو ما يحظى بقبول أكثر عند المعلمين، ويمكن أن ينال درجات حتى لو كان أقل قدره معرفة من غيره من التلاميذ. وكان كثير من الطلبة يضطرون للانضمام إلى جماعات النشاطات اللا صفية لكي يكسبوا حظوة أكثر وإن كان ذلك من دون قناعات. لم أكن مضطرا للمجاملة كثيرا لذا فقد لجأت لحسن السيرة والسلوك بدون أن أنضوي مع الجماعات". حسن السيرة والسلوك ربما هي المؤشر الأوضح لحياة سعود الدوسري الذي يتفق عليه جميع أصدقائه وزملائه. وعن تأثير نمط التعليم فيه فقد قال "لم أستفد من كل تعليمي لا الابتدائي ولا المتوسط ولا الثانوي إلا في صياغة لساني فقط، وقد كان لدي مشكلة في الحفظ دون الفهم. كنت أراجع كل صفحة أشقها وأرميها ما أرجع لها مرة ثانية وأدخل الإمتحان. أما تقديري في النجاح فعادة جيد جدا وأحيانا جيد، لم أكن متفوقا دراسيا وكنت أكره المواد الجافة كالرياضيات، وأجلس في الصف الأول أو الأخير من الفصل بحسب المعلم". لكن ما مدى تأثر سعود بالفترة هذه على المستوى الفكري؟ يقول "هو تأثر المد والجزر، في فترة من حياتي تأثرت إلى أبعد الحدود. كنت قد قرأت مجموعة من الكتب واستمعت إلى المحاضرات مثل عدالة السماء، وكان ذلك الوقت يتزامن والجهاد في أفغانستان. كان شيئا مؤثرا على طفل أو شاب في مقتبل العمر ومن الممكن أن يندفع إلى أبعد الحدود ويمارس سلوكيات مختلفة قد تتعلق باللباس والتعامل مع المرأة والتلفزيون والوسائل الحديثة. كان المجتمع يدفعني إلى ذلك دفعا كما أغلب شباب جيلي". وفي بداية ظهور الفضائيات، بدأ الناس شراء الأطباق اللاقطة، يقول "كنا نشاهد قنوات غريبة وقتها علينا وبلغات مختلفة لا نفهمها. كان المهم فقط أن نشاهد. كان بالنسبة لنا عالما آخر كأننا انتقلنا من عصر إلى عصر جديد. كان وقتها غزو الكويت وسقوط الاتحاد السوفيتي وتحولات كثيرة". إن لم يسمعني الملك .. دخول سعود الإعلام كان بشكل أو بآخر كما يقول "مقصود مئة بالمئة"، لكن الطريقة والوسيلة "كانتا صدفة". هكذا يقول "عندما كنت في الثالثة عشرة من عمري، كنت أصحو من النوم وأسجل صوتي وأضع كاميرا. كانت تشدني إذاعة لندن، وكنت أقلد المذيعين أساتذتنا في القناة الأولى، آخذ الأخبار من الجرائد وأحاول أن أؤدي أكثر من مدرسة في الأداء". وقد كان سليمان العيسى، رحمه الله، كعادته موجودا دائما وكأنه كان نصا دستوريا في الإعلام السعودي. يقول سعود "عدما كنت طالبا في جامعة الملك سعود، اختبرنا العيسى ومجموعة من الإعلاميين وكنا تقريبا 23 شخصا. كانت مقاييسهم الصوت واللغة والأداء. وتم اختياري مذيعا متعاونا في إذاعة الرياض وعمري 18 عاما". مرت شهور فقط حين كتب عبدالله الزيد خطابا إلى كبير المذيعين غالب كامل بأن سعود الدوسري يفترض أن يقرأ نشرات أخبار وأنه تجاوز مرحلة الإختبار "من يقرأ النشرات هو أستاذ ذلك الوقت. عندما بدأت قراءة نشرة الأخبار على الراديو تملكني شعور جميل وقلة عادة من يستمعون إلى الإذاعة. شعرت بأن الجميع سيسمعني، ومن بينهم الملك، إن لم يسمعني الملك فيسمعني الصف الثاني من القيادة على أقل تقدير". قال ذلك وهو يبتسم ابتسامته العريضة، ويستأنف بينما ينظر إلى مستوى بعيد من الأفق "أذكر أنني وقتئذ كنت أذهب إلى جيراننا وأقول لهم ببهجة كبيرة: اسمعوني سأقرأ نشرة الأخبار الليلة!" قالها وضحك. "طبعا لا أنسى تجربة MBC، فقد عمل فريق MBC الأول بأسلوب مميز عن السائد، كانت المحطة تحظى بمصداقية مختلفة تماما عن القنوات الموجودة في المنطقة". وفي عام 1993، طار سعود إلى لندن "لم أسافر للعمل بداية بل كنت في إجازة. كانت التجربة بالنسبة لي عالما آخر. وعدت من لندن بعد أن مللت الحياة هناك. أحببت أن أقترب أكثر من العالم العربي". لكنه انتقل إلى مجموعة "أوربت" في القاهرة "انتقلت إلى قناة مشفرة مارست فيها مهنية مختلفة تماما. بطبيعة الحال فإن هامش الحرية أعلى وهفواتنا الصغيرة لا تلاحظ من المجتمع. ظروف العالم وظروف المملكة أيضا اختلفت من بعد 11 سبتمبر. وكانت محطة انتقالية إلى الإعلام السعودي من ناحية الإنفتاح والوضوح. وبدأنا بث برنامج "من الرياض"، وكان أول برنامج يومي ينقل حياة الشعب السعودي ونبضه بشكل جريء واضح". وحملت ظروف المهنة سعود إلى بيروت "عندما انتقلت إلى بيروت، كنت ملما تماما بالمدينة. لم يغرني فيها الضوء ولا صناعة البروباغندا والإعلان. بل على العكس كنت متحفظا تماما فأنا تزعجني فكرة الظهور الدائم وأن أكون مستباحا. تغيرت كثيرا بعد كل سنوات الخبرة في الإعلام. تغيرت بأفكاري وتطلعاتي. شغفي في مرحلة التسعينات مختلف تماما عن شغفي الآن. أنا الآن أكثر نضجا". يصمت قليلا ليستأنف "أنا كسول عادة إلا عندما أبدأ الخطوة الأولى. ولا أخشى الفشل، لأني فشلت أكثر من مرة، وترددي هو حرص على النجاح". سعود شخصية وجدانية تماما، هكذا يعرف غالبا، يقول "أنا ابن الإنسانية كلها وعلاقتي بالمناخ أكثر من علاقتي بالجغرافيا.." كما كان يعترف أنه فقد شعور الدهشة في السنوات الأخيرة تماما "لا شيء يبهرني الآن، كنت أعتقد أن كل شيء في عيني مدهشا. الآن لا الأشخاص ولا الأشياء باتت كذلك!".. الدوسري مع صديقه الشاعر الأمير بدر بن عبدالمحسن لا شيء أكثر.. وداعا سعود الدوسري.. .. لما يسري في الفضا نجم السهاد ... لما يطفيه السحاب ... لما يملى عمرنا الماضي السواد تصبح البسمة .. صواب ... بدر بن عبدالمحسن .. [email protected] @fadilaaljaffal