لم ينل بعض الفلاسفة المسلمين الأوائل حظهم من المعرفة والدراسة والبحث، ومن أولئك ابن باجة الأندلسي الذي كان البادئ في إطلاق خطاب فلسفي جديد متحرر من علم الكلام وإشكاليته، ومن هاجس التوفيق والتلفيق الذي استولى على فلاسفة المشرق. تأثر ابن باجَّة بالبيئة والأوضاع التي نشأ فيها، فكان يحبذ اعتزال الناس والمجتمع، لذلك رأى نفسه في وحدة عقلية، وآمن بأن العلم وحده قادر على الوصول بالإنسان إلى إدراك ذاته وفهم العقل الفَعَّال. يرى ابن باجة أن الفلسفة ليست حكراً على الخاصة وأنها متاحة لجميع الناس وبإمكانهم النهل من معطياتها. وتدور فلسفة ابن باجة حول «الغاية التي وجد الإنسان من أجلها: وهي الاتجاه إلى الله والاتصال به، وإبراز قيمة الإنسان الوطني حين يصور نموذجه أنه هو الإنسان الذي يتبع عقله ويسيطر على غرائزه وشهواته من غير زهد أو تصوف لها. إنما هو فيلسوف يحيا حياة عقلية محضة، يعني بشؤون نفسه وشؤون مدينته بروية وفكر. ويعتبر المتوحد في نظره مواطناً في دولة مدنية غير قبلية». كان أكبر همه كابن سينا أن يمزج العلم اليوناني بحكمة أهل الشرق ليطالع الناس برأي جديد. وقد أثار اهتمامه أيضاً أمر العلاقة بين الفرد والمجتمع وما فيه من آراء غير ممحصة، حين جعل المفكر المتوحد، أو طائفة صغيرة من المفكرين المتوحدين يكوّنون دولة داخل دولة، كأنهم صورة للجماعة كلها أو نموذج لحياة سعيدة. من هنا كانت الغربة التي يعيشها ابن باجة وتعايشه في واقعه الاجتماعي هي غربة الأفكار والمفاهيم، أي طبيعة أفكاره ومفاهيمه، تختلف تماماً عن الأفكار السائدة. فهو في داخله ينشد صورة المجتمع العادل الذي تأتلف فيه القيم الإنسانية العليا، وحين يفتقدها في حياة مجتمعه وقد أنهكته الصراعات الطائفية والقبلية والتحالف مع الأعداء ضد بني العمومة أو الخؤولة يرى ذلك. و(«تدبير المتوحد» وهو وسيلة رمزية في النقد الاجتماعي. أراد ابن باجة أن يبين فيه انحطاط الواقع الاجتماعي والأخلاقي عن قيم الإسلام، والإنسانية، مظهراً فيه مدى تفسخ العقائد الدينية على يد هؤلاء الساسة الذين لم يرتفع مستواهم إلى مستوى المبادئ الإسلامية التي يحملون لواءها ويبشرون بها. كما يعتبر وسيلة من وسائل النقد الراقي، أراد منه ابن باجة: إشاعته أو إظهاره في وقت كثر فيه الحديث عن الإسلام والعمل به، بينما واقع المسلمين يورطهم ويلطخ من سمعتهم ويقيم عليهم وزرهم ببعدهم الشديد عنه. «فابن باجة» أراد أن يضع مبادئ معيارية لمحاسبة الذات العابثة)*. والمتوحد ليس هو الوحيد. والتوحد ليس هو الوحدة إذ المتوحد في القول الفلسفي الباجي، إنسان متفائل، حالم بنهاية سعيدة وأفق مفتوح على الخلود. والتوحد هو المنهج الكفيل بتحقيق ذلك. أما الوحيد في النظرة الوجودية، فهو اليائس، المحبط، المنعزل البائس والمتشائم والوحدة هي النهاية وهي الغاية، هي التوجس من قدوم لحظة العدم. إن الفساد الذي يعتري مدن الزمان، أو كما يسميها ابن باجة «المدن الناقصة»، والبهيمية التي تسيطر على أفعال الجمهور، والتوتر الذي يحكم العلاقات الاجتماعية، وغياب الحرية. كل ذلك مرده إلى غياب الطبع الفلسفي وعدم قدرة العقل الهيولاني على إدراك الصور الروحانية العامة كما يرى ابن باجة. وهو ما يفيد أن التغيير السياسي والإصلاح الاجتماعي غير ممكن، بدون تدخل الفيلسوف. لقد عبرت حياة ابن باجة عن الاغتراب الحقيقي الذي يعيشه المفكر والمثقف المختلف، وتعد فلسفة ابن باجة تعبيراً حقيقياً عن القلق الذي يعيشه الفيلسوف في حياته الفكرية. ** ** ** * كتاب (ابن باجة وفلسفة الاغتراب الدكتور محمد إبراهيم الفيومي)