ابن باجة الفيلسوف في عصر انقطاع التفكير الفلسفي في حقل السياسة، ولد في مدينة سرقسطة، وقُتل بالسم شاباً في مدينة فاس المغربية عام 533 ه، عاش في عصر انهيار حكومة ملوك الطوائف، وتقلد دولة المرابطين الحكم في شمال غرب أفريقيا والأندلس، تعرض للسجن بسبب مخالفة المعارضين لفلسفته، وإن أطلق سراحه وأصبح وزيراً، يعد أول فيلسوف أندلسي يمهد الطريق بآرائه أمام فلاسفة على وزن ابن طفيل وابن رشد وابن خلدون، له تراث قيّم، من أهمه كتابه «تدبير المتوحد»، وجاء فيه أن الإنسان مدني بطبعه، ولكن من وجد في نفسه الصلاح فيلزمه اعتزال المجتمع في ظل الظروف التي يصاب فيها بالانحطاط، والاكتفاء بصحبة العلماء والمفكرين. كلمة أخيرة: عبّر ابن باجة عن انزعاجه من سوء واقعه باللجوء إلى «لا واقعية متطرفة»، فلو كل ذي فكر اعتزل محيطه، ولو كل ذي خير فر من مواجهة الشر، لسقط المجتمع في ثنائية الجهل والعبث، وحينها سيعم البلاء حقيقة، غير أن الإنسان، وللموضوعية، متى ما وصل بعقله مبلغاً من العلم والنضج، فإن الخيوط التي تربطه بالعامة تنكمش وتتقطع حتى لا يبقى منها غير خيط رفيع أو حتى أرفع، إنما الدائرة الشخصية التي آثرت السلام فتقلصت إلا على الخاصة، لا ينبغي لها أن تضيق إلى أن يصاب صاحبها باستعلاء يلحقه اكتئاب يخنقه ويصور له التخلص من كل شيء في لحظة عتمة مجنونة، وعليه نقول أن تصوير ابن باجة للمدينة الفاضلة كان على درجة من العلو يتعب المرء ولا يبلغها، ولعله في ذلك يحاكي أفلاطون في مدينته الفاضلة التي كان يطمح هو الآخر من وراء طرحها إلى الوصول لهدف أسمى يجعل الفضيلة من أولويات الإنسان، بصرف النظر عما إذا كان واثقاً من بلوغها أو عدمه، فالأهم دائماً هو التعلق بشيء أكبر يوجّه سلوك الإنسان، فتقاس جودته بمدى اقترابه منه أو ابتعاده عنه، فهل كان ابن باجة ك«الفارابي» في فلسفته التي راعى فيها أن أصالة الإنسان بعقله، وسعادته رهن نشاطه العقلاني؟ نعم، فالإنسان في رأي ابن باجة يتلخص في قوى تفكيره وفكره، وقوة إرادته واختياره، أما الأفعال التي مردها دوافع حيوانية فهي بهيمية لا إنسانية، فما وجه الخطر في هذا الكلام؟ إن إنسان العصور عادة ما يطمح نحو الأفضل، فإن عجز عن تحقيقه فقد يصور له عقله أنه أمام خيارين: إما الإصرار على التخلي عن الدنيا بالإعراض عنها وعن لوازمها في نأي عن التلوث، أو الوقوع في براثن هذا التلوث يأساً أو طريقاً ملتوياً للتطهر، على إني أميل إلى رأي «شامبور» القائل: «القليل من الفلسفة يبغض إليك المعرفة، والكثير منها يحببها إليك»، فمعضلة الفلسفة، أنها لا تتفتح إلا لخاصة الخاصة، فالصمت والتأمل والتدبر في التعقل اللانهائي، والغرق في ما بعد الطبيعة العقلية أمر لا يتذوقه أياً كان، ذلك أن الأسئلة الكبيرة إنما تغري بتحديها من تعود أن يسأل بالمقلوب! فيسألونك هل تصلي، ولا يسألونك هل تحب الله! وقالوا: «التعمق في الفلسفة يردنا إلى الخالق» بيكون [email protected]