كما يعيش حياته دون بهرجة أو استعراض قدّم المثقف والأكاديمي والإنسان عبد المحسن القحطاني الجزء الأول من سيرته الذاتية «بين منزلتين» في طبعة بسيطة ليقول فيها شيئاً من حياة اليُتم والعناء وتحولات السنوات الأولى بكل مآسيها وأفراحها المحدودة وخطواتها الأكثر ثباتاً في طريق رسم هوية رجل هادئ ومختلف وحضاري وصاحب فكر نقي يتآخى مع فضاءات الفن والجمال والمعرفة. لم ينل هذا الجزء من «بين منزلتين» حقه من القراءة والدراسة والتأمل فهو وثيقة مهمة يلخص فيها سنوات التكوين له ولجيل كامل عانى، وتحدى، وتجاوز سلاسل من العثرات ليبني ذاته بثبات وإيمان عميق بأن الحياة تُؤخذ غلاباً. وكنت أتمنى أن تمتد صفحات «بين منزلتين» لتكون جزءاً واحداً يقدم التحولات في سياق متصل، وتشمل الحياة العملية، والإسهامات الأكاديمية، والمعرفية والمهارات الإدارية التي عُرف بها المؤلف داخل أسوار الجامعة وخارجها فكان، بها ومعها، أحد أهم وأبرز صنّاع العمل المؤسسي الثقافي العصري بكل شفافية ووضوح، ونزاهة أيضاً. في ثمانينيات وتسعينيات القرن الفائت عرفت كلية الآداب في جدة فريقاً أكاديمياً رائعاً وكان الدكتور عبد المحسن القحطاني أحد هؤلاء يعمل بروح متسامحة، ووعي ضارب الجذور، وانفتاح نادر على المدارس الحديثة وإسهاماتها المعرفية والأدبية، وإن اختلف معها أحياناً لم يناصبها العداء أو يؤلِّب المتعلمين حوله ضدها، بل يمنح الجميع فرصة التلقي والاختبار والفحص وحرية الإيمان أو الرفض.. لم يمارس دور الوصاية أو القمع أو إدارة الصراعات في السر أو العلن كما كان يفعل البعض ويتقن، أو كما كان ينشغل آخرون أمضوا طيلة عمرهم الأكاديمي في إدارة معارك وهمية وزجّ بعضهم بالطلاب في تفاصيل لا يجدر بالمؤسسة الأكاديمية أن تكون متسعاً لها أو حلبة للمتصارعين فيها. هذه الروح البهية والعقل الثري معرفياً جعله قريباً من كل الأطياف منتصراً لفريق التسامح والوعي ضد فريق مشغول بالمواجهات التي لا تهدأ.. كان أستاذاً وأباً ومرشداً أكاديمياً وصديقاً يمضي ساعات طوالاً في أحاديث جانبية مع الطلاب لحل مشكلاتهم والأخذ بيدهم نحو مصدر معرفة جديد أو تحليل مقالة أو قصيدة أو نص سردي أو حكاية شعبية عميقة الدلالة لا تخلو من درس أو ومض لا تتأمله إلا عين قارئ حاذق يمتلكها ويساعد مَنْ حوله على اكتشافها. إلى جانب رسالته التعليمية أدار عمادة شؤون الطلاب وكانت حينذاك متسعاً لكل الفنون والبرامج، وضمت أندية ونشاطات، ثم تولى عمادة القبول والتسجيل، وكان في كل المواقع يحمل فكراً إدارياً متقدماً يتيح الفرص للفريق ولا يُعنى بتصدير نفسه، ولا يستحوذ على نجاحات الآخرين. الفكر المؤسسي أحد أهم ملامح شخصية الدكتور عبد المحسن القحطاني المثقف وهو من الفريق الذي اختارته وزارة الثقافة والإعلام عند التحول في أنماط إدارة الأندية الأدبية فعمل رئيساً لمجلس إدارة نادي جدة الثقافي طيلة أربع سنوات صنع فيها فريقاً متآلفاً، وأعاد تأهيل ملفات النادي، ورتّق ثيابه البالية، وفتح قنوات مع القطاع الخاص لتكون الثقافة جزءاً من أجندة أعماله ورسالته تجاه الناس، ومن ثمار ذلك مبنى حديث تبرعت مؤسسة الشربتلي بإنشائه وفق أحدث المقاييس ومتكامل العناصر هو أحد أفكار وتخطيط ومنتجات رؤى رجل مؤمن بفكره وقادر على تبنيه تنفيذياً، وقليل من يفعل ذلك في ساحة ثقافية مشغولة بالكلام على حساب المنجزات والأفعال الحقيقية. أظن الجزء الثاني من «بين منزلتين» سيقول كلاماً كثيراً عن حياة المؤلف وتحدياته ونجاحاته وفلسفته الإدارية وظروف منجزاته الثقافية والعلمية، ومن وقف إلى جواره أو من خذله، إن صح التعبير، وهو يمتلك في ذلك كلاماً كثيراً سيكون مثيراً للاهتمام والجدل.