التقيت به أول مرة عندما بدأت العمل مع فرقة لعروض السيرك، دخلت إلى الخيمة فأثار انتباهي جسد ملقى فوق الفراش، قصير القامة؛ تخيلته دمية صغيرة مطروحة تنتظر قدوم من يؤنسها في نومها... صافحتُ كفه الصغيرة، شعرت بدفئها، ابتسمت مخفيا دهشتي، بادلني بابتسامته التي تشبه إلى حد كبير ابتسامة طفل وديع... - تسرني معرفتك - وأنا أيضا، فأصدقائي من السيرك فقط! - أنا زميل جديد في السيرك، أجيد ألعاب خفة اليد - آها! - أنت صديق الملايين، فالجميع يأتي لمشاهدة عروضك! قال بصوت مبحوح وكأنه استراح إلى الانخراط معي في حديث طويل - أنا فقط للسيرك أو للتمثيل على خشبة المسرح! شعرتُ بالأسى من أجله، اقتربت منه أكثر، ربت على كتفه، وتساءلت مع نفسي، ولا أدري لماذا ساورني هذا التفكير الغريب، كم من قزم مارس منصباً مهماً.. خانتني ذاكرتي واستسلمت... جاء نداء مدير السيرك لبدء عرضه، فتحت الستار ودخل بزي المهرج بأنفه الأحمر وثيابه الملونة بألوان الربيع، يمتطي كرة كبيرة الذي ظل يتقافز فوقها بخفة الريشة، رقص، تمايل، أسرع في حركاته البهلوانية، شكلها، داخل بينها... يرفع رجل ويحط بأخرى، تمازجت ألون الكرة القزحية، فجأة سقط من على الكرة إلى الأرض جثة هامدة... امتقع وجه صاحب السيرك، ساد الحضور الصمت، امتدت أعناق الجمهور لترى المهرج الملقى على الأرض بلا حراك... خفت على حياته، فوثبتُ لنجدته أتحسس أنفاسه فإذا به يقفز بحركة بهلوانية سريعة ليقف منتصبا، صفق الجميع وهم يضحكون، يصفرون، لا أدري هل كان سقوطه مفتعلا أم كان من ضمن العرض ولكنني ضحكتُ أنا أيضا لأنه خدعني وصدقت أنه أصيب. انتهى العرض، فانسحبت خلسة والمشهد محفور في ذاكرتي، دلفت إلى الخيمة ثوان، دقائق لم يأت، طال انتظاري، والمهرج المخادع ما زال غائباً، أكلتني نفسي فخرجت أبحث عنه.. جذبني ضوء القمر إلى حيوانات السرك، أجس الأرض بحذر شديد، سمعت صوتاً لم أتبين كنهه، اقتربت أكثر، شاهدت صديقي المهرج يحاور تلك الحيوانات بنبرة اليائس الحزين، لكنه أطال النظر إلى حصان البوني، أعتقد أنه لمح خيالي، وبخفة جنونية أسرجه وخرج منطلقاً نحو مكان لا أعرفه أعتقدت أنها نزهة قصيرة وسيعود، انتظرت وانتظرت عودته، لكنه لم يعد منذ تلك الليلة...