(إنّ الكِتَابة بالنسبة إليّ ؛ تشبهُ المشيَ على حبلٍ في أعلى خيمة سيرك.. مُغامرة، رَشاقة، توازن، توازن، توازن، لُهاث، ارتباك، اختلال، حبس أنفاس، و.. أحياناً نهاية أليمة على الأرض..) في العشر سنوات الأولى من عمري كنت أراقب جدّي وهو يقفز ببراعة، كان يطير كساحِر من رفّ لآخر في مكتبته الكبيرة، وكان يطلب منّي فقط أن أتفرّج، وأن أقرأ، وأن أقرأ، وأن اقرأ، وأن أقرأ فقط.. كان صالونه خيمة سيرك.. كان يخاف عليّ إن صعدت معهُ على الحِبال وأنا بهذا الحجم، وهذا العُمر؛ أن أهوي من أوّل سطر. كان كلّ ما هو مطلوبٌ منّي أن أراقب ما يجري، وأستمتع بالعرض الكبير. وكنت أقيس المسافة بين السّماء وبين الأرض، كنتُ أفعل ذلك وأدعو الله ألا يقع جدّي من هذا العلوّ. لكنّ جدي كان يمشي على الحِبال بسرعة.. كمؤمن على الصّراط.. كان يقفز على الرّفوف بخفّة.. كأرنب على جدار.. كان يعرف أنّ القصيدة تنتظره في آخر السّطر. كان يمرّ على الكلام بسرعة ورشاقة وعذوبة.. مثل البرق، مثل الماء، مثل الضّوء، مثل اللحظات الجميلة في هذه الدّنيا.. وكان يزن القصائِد بالعصا التي يمسكها بيده. صالون جدّي كان خيمة سيرك كبيرة ملأى بالمهرجين والسّحرة والبهلوانات. كان يزورنا محمد حسن عوّاد، وطاهر زمخشري، وحسن عبدالله القرشي، وحمد الجاسر، وأحمد عبدالغفور عطّار.. وغيرهم. كلّ هؤلاء السّحرة، ولاعبي الخفّة في فنّ الشّعر والقصّة والمقالة؛ يؤدون " نمرهم" في بيتنا.. وأنا أتفرّج فقط. في تلك المرحلة كان محظوراً عليّ أن أضايقهم، أو أن أصعد على الحبل معهم، أو أن أضع رأسي في فم واحدٍ منهم. كان جدّي يقول لي: "لا تقترب أكثر مّما هو مطلوب منكَ يا ابني، لا تضع رأسك في فم شاعر، أخشى أن يلتهمك أحدهم".. كنت صبيّ هذا السيرك، أعُدّ الحبال وأشدّها. أجهّز لهم ملابس العرض، والماكياج، وساحة الاستعراض الكبير كلّ يوم.. وفي الاستراحة كنت أسقيهم الماء والشّاي والقهوة، وأحضّر لهم وجبة العشاء.. في العشر سنوات التّالية، وعند انتهاء العرض، وتفرّق الجمهور، كان جدي يقفل خيمته وينام. وأنا كنت أمدّ أول سطوري في "الهوا" دون أن يعرف، وأحاول أن أمشي عليه إلى الضفّة الأخرى من الشّعر. لم يكن الارتفاع عالياً في البداية، لكنّني كنت أقع برغم ذلك. الخوف، وهيبة المسرح، والجمهور، وتجسّد أشباح هؤلاء الكبار أمامي، وصوت جدّي وهو يحذّرني من تسلّق السلّم، والمشي وحدي على الحبال.. جعلوني أصعد لأعلى الخيمة خفية، كنت أكتب قصائدي الأولى في السرّ. سقطت كثيرا من على السّطور، لكنني في كل مرّة كنت أقف على قدميّ.. أكثر قوّة، وأكثر رشاقة، وأكثر خفّة، وأكثر سرعة، وأكثر براعة.. في نهاية العشرينيات، كنت أتهيأ لإنهاء المرحلة الثالثة من عمري ودخول نادي الثلاثين.. وكان جدّي قد توفّي لم يسقط من الحبل، عارٌ علينا إن سقط من فوق. عارٌ على الأدب وعلى الكِتابة وعلى الفنّ أن يسقط شاعر بهذه البراعة. حتّى سن الثمانين، كان هذا البهلوان يتأرجح من سطر لسطر، ومن قصيدة لأخرى، ويخطف الأنفاس والتصفيق .. لكن الرجل الكبير مات، مات بهدوء.. وورثت عنه اللعبة مبكّراً.. كان يجب أن يعمل أحدنا في المجال حتّى "يمشي" سوق شعرنا في العائلة.. ورثت عنه ملامحه الحزينة، ورأسه المرفوع، وعزّة نفسه، ونحالة جسمه، ومشيته، وصوته، وضحكته، وعينيه، وشويّة شِعر، وشويّة عِند، وشويّة كرامة، وشويّة جنون.. مات وأعطاني الكلمة وأعطاني الحبل. كيف ستبدو بعد الأربعين؟!.. أعتقد أنّي سأصبح بهلواناً آخرَ في سيرك الكِتابة. "مضحك جداً، وحزين جداً"