يهتف صبية صغار بصرخات ومشاجرات.. أصواتهم أشبه بطنين الدبابير التي تخترق رأسي المتورم من كثرة أدوية الزكام والرشح.. وهذه الحمى الشديدة لا يحلو لها المقام إلا في عظامي. الساعة تشير إلى التاسعة صباحاً.. يا الله.. يوم عرفة هذا العام يختلف عن كل الأعوام السابقة. نهضتُ بتثاقل إلى حيث الفوضى تعم المكان, وفي غرفة الجلوس إخوتي الثلاثة الصغار يشعلون فتيل معركة ثلاثية الأبعاد ذات قنابل لسانية، ضحيتها أريكة منزلنا الجديدة التي لم يشفع لها قدومها تواً من المتجر لتقع فريسة سهلة، يتقافزون عليها، ويتقاذفون وسائدها؛ لتتلوها ضحكات مزعجة, توقظ ذلك الطنين في رأسي من جديد. صرخت بقوة شديدة.. ولكن.. لم يحدث شيء.. فقط ظل فمي منفرجاً للحظات. حتى أنا لم أسمع صوتي. يبدو أن حبالي الصوتية قد ملّت مني الأيام الماضية في غياب والدي، ورأت أن تتركني أخوض المعركة بلا سلاح. أدركت أنه يجب عليّ أن ألجأ لوسائل سلمية أخرى؛ علَّها تكون أنجع. وحين رفعت الراية البيضاء رن جرس الهاتف المحمول, حينها تلقفته أيدي الصغار, وبدؤوا بالشجار. عندها لم أجد بداً من إيقاظ الأخ الأكبر حسام؛ لينهض بتكاسل، ويفض النزاع بمجرد أن حمل سماعة الهاتف وتلألأت عيناه وتحدث بسرور: (والدي هلا بالغالي.. نحن بخير والحمد لله.. كيف الغالية؟). فجأة وبدون تشغيل صفارات الإنذار والمطافئ اصطف الإخوة الصغار بانتظام. فتحت عيني بشدة عجباً لذلك!! ولكن يبدو أن شوقهم ورغبتهم الشديدة في محادثة والدَيْنا جعلتهم يمتثلون للقانون. في حجرتي القصية يتمدد جسد بارد كقطعة الجليد, وصفرة الجريد، ويهذي بكلمات يسمعها من في الدار, آآه يا أمي, كم أفتقدك؛ كم أذرف دمعاً حاراً حينما أذكر كلام الطبيب لك: «قدماك لا تحتملان المسير عليهما كثيراً لانحراف حاد في مفصل القدم, وصحتك العامة ليست مطمئنة». ولكنك رفضت وبشدة لتؤدي رحلة الحج العظيمة. أسأل الله العظيم أن يرزقكما الحج المبرور والسعي المشكور، الذي ليس له جزاء إلا جنة الخلد. ولولا هذه الحمى الثقيلة التي لم تتحين الموعد المناسب، وفضلت أن تبارك لي بالعيد قبل أوانه، وتحول بيني وبين صيام يوم عرفة الفضيل.. النعاس يطبق بثقله على جفني لأغط في سبات ثقيل، وأصحو وقد تحولت الدبابير المزعجة إلى نحلات نشيطة، تحمل رحيقاً حلواً لتوقظني، وتسقيني شربة عسل وكأس ليمون. وهناك يقفز صغير كفراشة ملونة فرحة بقدوم العيد, يساعد الجميع, وصغيرة كالملاك تضع كفها الصغيرة على جبيني، وتغني «أختي الكبرى..لللا.. لللا». وكمادة باردة كبرودة أطرافي تلف رأسي الثقيل. ضحكتُ على نفسي وبشدة.. هل أنا في حقيقة أم أن هذا من آثار السخونة؟.. أياً كان ذلك، يبدو أني سأغط في نوم عميق حتى الغد.. ولترعَ النحلات الصغيرة أنفسها.