ظهيرة محافظة رجال ألمع صاهدة، وشمسها أول من أمس تصفع الخد وتلهب الرأس. لكن "النحالين" هناك يمضون وقتهم غير آبهين لها، ومنهمكين في ترفيه نحلهم وملكاته، فوق جبال عالية تحيط بها غابات.. بعيدة عن العين وقريبة من الطبيعة. وتلك مواقع مخصصة لشهور عسل النحل، وخلالها تنغمس عاملاته في زهر السدر والسمر والقمرة قبل أن يتكرمن بعسلهن على نحّالهم، ولكن بعد عشرات اللسعات. وهي الضريبة كما يقول النحّال مفرح آل مخاتم (60 عاما). فوق جبل يبعد مسيرة ساعة عن منزله، يخبئ آل مخاتم مناحله عن أعين الناس وزملائه، فهو يعتقد أن "اختيار المكان شطارة تلهب المنافسة". يتعاهد هناك 400 خلية مصنوعة من خشب بالزيارة كل يوم. يروح ويغدو إليها ويده على قلبه خوفا على رزقه. يحرسها عامله مرابطاً قربها حتى موسم "السمرة" ثم ينتقل إلى حيث تكثر أشجارها. هي رحلة بدأها آل مخاتم منذ 40 عاما، وقودها حبه وإخلاصه لصنعته وإلا فالأمر لا يستحق كل ذلك العناء: ف"البديل عسل مخدوع لا يكلف جهدا، ويشبعك مالا". يقف آل مخاتم على شفا جبل عال، يراجع مخازن عسله ونحله والتي انتهى من قطع أعوادها الأسبوع الماضي وتوزيعها وتخزينها انتهاء ببيعها في مهرجان رجال ألمع للعسل. تلك المناحل تدفع له في موسم "السدرة"، وفي شهرين إلى ثلاثة، 2800 كيلو من العسل يبيعها بمتوسط 300 ريال للكيلو. وهو ما يجعله راضيا بالترفيه والتعب الذي يبذله لنحلاته، لكن ذاك –ويجزم غاضبا- يصير مبلغا تافها مقارنة بما يقبضه الباعة المتجولون والذين يبيعون عسلا مخدوعا. وهؤلاء هم عقدة آل مخاتم وزملاء مهنته. في ديسمبر، يبدأ النحالون في رجال ألمع بقطف "أعواد العسل السدرة" كما يسمونها، وهو من أجود أنواع العسل. وقبل تجميعه يخلصون في رعاية مئات آلاف النحلات. يجيئون إليها بالماء ويغطونها عن الأمطار والشمس وشر الدواب، ويحمونها وملكاتها من هجمات "دبابير" لا تبقي ولا تذر، بطرق ابتكرتها لهم وزارة الزراعة. وهناك نحل من السعودية، ونحل مصري وتركي وأفريقي وحتى أوروبي، ولكل مميزات تزداد إذا تزاوجت وهجنت. وآل مخاتم لا يفضل استيراده، فعسل النحل البلدي أجود وألذ في رأيه. في حين يرى النحّال وصاحب مؤسسة لإنتاج العسل وتصديره مفرح الشديدي بأنها حل مناسب لمواجهة انخفاض الإنتاج، فاشتراك الأنواع يمنح العسل مذاقا أطيب ولا يقلل من جودته بل يزيدها كما يقول، شريطة أن ترخصه وزارة الزراعة. وحسب كمية الأمطار يكون العسل الحقيقي أو لا يكون. قد تعشب الأرض فتصل إليه "جوابي النحل" فتصنع منه منتجاً بمذاق ورائحة ما أكلته. أو تجدب فلا يأتي العسل إلا نادرا، ووقتها تصير الفرصة مواتية لإغراق السوق ببضاعة بلا نكهة ومغشوشة، وبكميات كبيرة جدا "تصيب مستودعات السكر بأزمة طلب". وهذه نظرية الشديدي، فالعسل الأصلي الذي يبحث عنه الناس يعتمد على الأمطار وخضرة الأرض. ومفرح الشديدي عمره 57 عاماً. أمضاها منذ طفولته مع أبيه وجده في جوار النحل ومعه. أصيل في قرويته، متلذذ بمهنته، متدرب في جامعات، ومشرف على عشرات المناحل. يقول: قد لا تصدقني، ولكنني –والله- أبيع العسل في ظل فوضى الغش حتى لا يقول الناس.. "ذهب النحالون الصادقون". وعقدة الشديدي وآل مخاتم وزملاؤهم تتعلق بترفيه النحلات الذي يصل إلى مستوى مختلف في مكان آخر: إذ يسقى بماء مُحلى، ويطعم بسكر وتمر و"نشا". يقول الشديدي: لاحقا تعطي النحلات أصحابها على قدر ما أعطوها، ويصير العسل وكأنه طبخة طبّاخ. والعسل أنوع، أغلاه وأندره "المجرى". لونه فاتح ويتغذى نحله من شجرتي الوشاية والقمرة، وهو جوهرة نفيسة وصل سعر الكيلو منه إلى 1500 ريال في الأيام الماضية بمهرجان العسل في رجال ألمع. وأفضله السدرة، وهذا موسمه، وبعده السمرة ثم الطلحة.. وغيرها أنواع كثيرة. وعن بائعي العسل المغشوش، كما يسميهم الشديدي، يقول: هؤلاء يفترشون الطرقات بصينيات صغيرة مملوءة بأقراص عسل وبقوارير زجاج، وهو ليس عسلا ولن يكون. هذا خداع لا يكتشفه إلا المتمرسون. هم يخلطون بضاعتهم بالسكر أو يغذون نحلهم بمواد كيميائية ويبيعونه غالياً لأشخاص مساكين. ويضيف: هؤلاء لم تلسعهم النحلات، ولم يتصبب عرقهم وتتشقق أيديهم وهم يصعدون بخلايا النحل إلى الجبال، ولم يغدوا ويروحوا لرعايتها أشهرا. هذا غش. ويبدو أن أسلوب تربية النحل الذي يتبعه الشديدي وآل مخاتم وزملاؤهما، والذين نالوا تزكية المشرف على مهرجان رجال ألمع للعسل إبراهيم مسفر الألمعي أعطاهم دخلا ذهبيا، فإحصائيات المهرجان في أسبوع تشير إلى بيع 20 ألف كيلو من العسل لمشترين من المملكة ودول الخليج. بل إن الرقم –بحسب الألمعي- مرشح لزيادة مضاعفة في الأسابيع المقبلة وحتى بعد انتهاء المهرجان. في حين قال محافظ رجال ألمع محمد بن سعود المتحمي إن السنتين المقبلتين ستحملان دعماً لأولئك النحالين وإنشاء نزل بيئية متخصصة بالتنسيق مع الهيئة العامة للسياحة والآثار، اعتماداً على استراتيجة بدأت منذ خمس سنوات. وقال المتحمي إن المحافظة تخطط لتصدير عسل أولئك النحالين إلى مناطق المملكة، ولاحقا إلى خارجها، مشيراً إلى أن مهرجان العسل في رجال ألمع مهد لذلك وأعطى مقياساً جيداً على جودة ما يقدمه النحالون. ويعود الألمعي ليشير إلى أن عائلات في رجال ألمع صارت تتشارك في تربية النحل وتقاسم مهام حمايته، وأن هناك فكرة مطروحة لتحويل وادي ريم لمنطقة تجمع 100 نحال إضافة إلى أسرهم ليتحول مستقبلاً إلى محمية.