تعطلت المولدات المغذية بالنور قريتنا الصغيرة، إذ يبدو أنها معتادة على جفوة الكهرباء في كل مرة يلفها برد الشتاء، ويسدل الضباب بُردته عليها. يا لهذه الليلة.. ما أشد سوادها.. ويا لهذه المولدات اللعينة.. ما أسرعها على السكوت حين يهدر السحاب بالرعد والمطر.. أظنها أكثر مولدات العالم جبنًا.. تخشى مجابهة المطر. أسرتي لم تكن كباقي الأسر التي اتخذت تدابيرها، وتحرزت لمفاجآت المطر، فهبّ البعض باحثًا عن (التريك)، والآخرون عن الفانوس وأعواد الثقاب، حالة طوارئ مفاجئة، الكل تطوع للمساهمة، عداي.. فأنا صغير وخبرتي محدودة، هكذا يظنون، وفوق هذا.. لا يعيروني أي مسؤولية، جميعهم يحثني على الهدوء والابتعاد عن المهمات الجسام، لا أدري لماذا؟ ربما لأني أمتاز بشيء جميعهم يفتقده، كميزة السبر والتأمل، أو ميزة البحث فيما وراء الأشياء، أظن ذلك يشعرهم بالاختلاف عني، ويبرز قيمتي على حساب شأوهم ومكانتهم في المؤسسة العائلية، لذلك يتعمدون تهميشي، والتقليل من دوري ووظيفتي. قلت ذات مرة لوالدتي، التي لا أجد غيرها يحسن الإنصات لي: أتعتقدين حقًا أني أتعمد تعطيل الأشياء؟ أنا لا أرمي إلى ذلك، ولكنها للأسف تتعطل رغمًا عني. والدتي العزيزة؛ هناك فرق بين من يتعمد الإتلاف، وبين من يحاول الاكتشاف. فسايرتني وابتسمت لي وقالت: طبعًا.. طبعًا.. هذا مؤكد يا حبيبي. فانصرفت وتركتني بعد أن أخذت حديثي بما يتوافق وحجم تفكيري وعقلي. عاد الباحثون عن الفانوس بفانوسهم وهو مفرغ من (الكاز)، وعاد من كان يبحث عن (التريك) بدون فتيلته، فضج المكان بالتمتمات والتساؤلات والصراخ والعويل، فوضى أسرية عارمة، آآه لو عرف المتربصون خارج المنزل بهذه الفوضى، لأصبحنا حديث الساعة وكل ساعة، ولو كانت أختي متفرغة مما هي فيه لأخذتني الآن لغرفتها وهمست في أذني (ما تراه يا فارس.. يجب ألا يخرج من هذا الباب.. أفهمت؟)، حسنًا يا أختي.. ومن دون أن تتجشمي عناء اقتيادي، لقد استوعبت كثرة توجساتك، وألفت شدة حرصك على سمعتنا أمام الناس، سوف لن أتحدث بشيء مما أراه، عدا صديقي خالد، فهو صديقي الذي لا أملك أن أخفي عنه شيئًا، وهو كذلك، فقد تعاهدنا تحت شرفة جارتنا الجدة مسعدة ذات مرة على ذلك، وأنا لست ممن ينكث عهده، هكذا تعلمت في المدرسة، فالمنافق وفواز فقط.. اللذان ينكثان الوعود، فهل يظن فواز بأني نسيت العشرة ريالات التي وعدني بها إن مكثت في المنزل وحفظت نص المحفوظات؟ لن أنساها.. وهو مدين لي بها، ولن أتوانى في المطالبة بها. تُرى.. هل في القرية من هم في مثل جلبتنا هذه؟ يخيل لي أن جميعهم وادعون هانئون أمام مواقدهم وقناديلهم.. إلا نحن، حتى جدتي مسعدة، الأرملة العجوز، لا أظنها إلا تحت قنديلها و(دلتها) الحمراء بجوارها، أظنها أكثر من يشرب القهوة على هذه الأرض، فإن ذهبتُ إليها – قسرًا - مع والدتي لا أجدها إلا جاثمة أمام سُدة دارها وتلك (الدلة) قابعة جوارها، وإن أتت إلينا؛ أتت وفي يدها ذات (الدلة)، يخيّل لي أن في هذه (الدلة) نبع من القهوة لا ينضب. وبعد أمد من الأخذ والرد تحت ستار الظلمة بين أفراد العائلة الكبار انتهى النقاش على ضرورة الحصول على فتيلة، فقط فتيلة، نوقدها ونستضيء بها، فانبرى من بين الجمع أخي الأكبر متبرعًا لخوض غمار البحث عن تلكم الفتيلة، - في الحقيقة - كنت على يقين أن فواز لن يفوت هذه الفرصة ليثبت للجميع أننا من دونه لا نحسن التصرف، ولطالما أحرجني عند الناس، ففي كل مناسبة يحتاجون فيه لشيء ما.. أي شيء.. يظهر لهم ويقول ها أنا ذا، حتى الجماعة لا يسمون أبي إلا أبا فواز، وكم نصحته.. لكنهم هكذا الأخوة الكبار؛ لا يعقلون، ولا يكترثون لنصح الصغار. ومع أول هدأة لزخات المطر انطلق فواز نحو البيوت المقابلة في الوقت الذي تحلقنا فيه حول (التريك) الذي لم نعد نراه لشدة سواد خيمة المكان، مكثنا في ترقب، أختي تلهث (يا رب.. يا رب يجد فواز فتيلة)، وأبي يسبّح بحمد الله ويهلل ويكبر كثيرًا على نعمة المطر، ووالدتي متسمرة هناك، تطل من الشرفة منذ أن خرج فواز، أما أنا فكنت ممدًا على الأرض وقد أسندت رأسي على ورك والدي، وكنت على يقين حينها بأنه سيعود ومعه الفتيلة، فأي شخص بإمكانه ذلك، وكل ما في الأمر.. عدة طَرَقات على نصل باب أقرب بيت في القرية، وحين يُفتح الباب.. يقول: أمي تسلم عليكم وتقول.. عندكم (صلصة) أقصد فتيلة، والسلام ختام. لم يطل الأمد، حيث عاد المنقذ حاملاً (فتيلة الإنقاذ)، فالتقفها والدي ثم تولى مهمة تركيبها وإشعالها بطريقة أتذكر أنها أثارت استغرابي، فقد كان يومض بها ويخفت، ثم يشع بها وهكذا، كررها مرارًا.. وفي كل مرة تهيج فيه الفتيلة أرى وهجها يسطع من سطح صلعة أبي، ثم استقر بها على درجة متوسطة من الضياء، فعمّت الفرحة أرجاء البيت، وتخشب أفراد الأسرة حول الشعلة يتأملون النور المنبثق عبرها، فأطلق والدي صرخته المدوية التي كادت أن تهوي بالفتيلة (ابتعدوا عن التريك)، فتفرق الجمع، وتناثرت أوصاله، ثم حذرنا من الاقتراب من (التريك) فهو مؤذ لشدة سخونته، وأبان أن فتيلته أصبحت هشة سرعان ما تتفتت عند أدنى هزة لجسم (التريك). مع هذا الشعاع الذي دب في الأركان ضياؤه، والذي عم معه الحب والدفء، التمت الأسرة وهي مكتنفة عباءة مثقلة بالعاطفة والنور تحت معزوفة الشتاء الأخّاذ، وكان أكثرهم حيوية ونشاطًا.. والدتي، إذ ما فتأت تعدو بين الفينة والأخرى؛ تلاحق وبيدها وعاؤها كل منفذ استحدثته قطيرات المطر المنسالة عبر أعواد سقف الدار، فالبيت رث وقديم، له سطح شاحب أعيته الشقوق، وكأني بالمطر ضاقت به الأرض فلم يجد له منفذا غير تلك الشقوق. أكثر ما كان يشغلني هذه الليلة هو سلوك ظلي على جدار الحجرة. فقد وجدت في ذاك الظل ما يثير الفضول والتعجب، فتارة أراه صغيرًا وأخرى كبيرًا، فقررت أن أمارس هوايتي البحثية وأسبر غور هذا الظل المتغير، لماذا لا يكون بحجم ثابت؟ فأصبحت في حراك دؤوب، أثب فوق (المساند) أو أزحف على الأرض، وعيني لا تنفك عن الظل، وقد انتهزت انشغال الجميع، فلو تنبهوا لمشروع بحثي الجديد فسيفسدون عليّ نتائجه، فحمدت الله على أن أحدًا منهم لم يعرني اهتمامه، وحينما تأكد لي انشغالهم أحببت أن أجرّب طريقة جديدة لاختباراتي المتكررة حول هذا الظل العجيب، فالتصقت بالجدار؛ وإذ ظلي أقرب ما يكون في حجمه لحجم جسمي الحقيقي، ثم قررت التقهقر إلى الخلف ومراقبة بدايات التغير في الظل، ولكي أتمكن من رؤية النتيجة بشكل صحيح؛ جعلت ظهري باتجاه الضوء، ومع كل خطوة اقترب فيها من الضوء يزداد الظل في التضخم، ثم تسارعت خطواتي إلى الوراء وعيني تحملق في السقف، يا للهول.. ظِلُ رأسي يصل السقف!! وما هي إلا خطوة واحدة واخترقه برأسي، وحين خطوتها اختفى الظل وحل الظلام وعاد الصراخ، يا لعشق هؤلاء البشر في العويل والصياح. ألم أقل إن هذه العائلة تفسد دومًا اكتشافاتي؟