رحل كما رحل الآخرون متدثراً بعباءة الموتى بين جنباتها تاريخٌ ملؤه صفحات ناصعة البياض وسجل حافل بموروث ثقيل من الكتب كعلامة فارقة بين الأموات والأحياء كحال أصحابه الكبار السابقين الأولين!، زمن الغياب لم يحن بعد! فالحياة ليست مختزلة في قلبٍ توقف ليرحل جسد فيه ما بين طعنة رمحٍ أو ضربة سيف من معارك الأدب والثقافة وتقلباتهما ولكنها رحلة قد تمتد لقرون عديدة يشغل الناس بأحاديثه كما شغلهم صاحبه المتنبي من قبل! مضى العمر كيوم أو كبعض يوم ولم يأل جهداً في أن يستثمر كل دقيقة من هذا العمر القصير! والسعيد من اتعظ بغيره وسعادته بأن جعل أصحاب العقول قدوة يحتذي بها ونظرته الثاقبة أعطته درساً أن الحياة دقائق وثوان ومهنيته لم تنفصل عن شاعريته فكان الشعر والنثر يسيران جنباً إلى جنب بنجاح مع إدارته في عمله! قد تكون أحاديث القلب وشجون الفؤاد أمر ثانوي في بداياته ولكنها أصبحت فيما بعد أمر رئيسي في حياته ولذلك أراد أن يحوط المجد من كل اتجاه! فتعددت ثقافته بتعدد أغراض الثقافة نفسها والكتابة تخصص برع فيها لا تدري أيهما تعجب له! فإن كان الشعر براعة يراع وفن موهبة فهو في الكتابة شاعر أيضاً! وذائقة جمالية في الاختيار لا يفهمها إلا الكبار! وما بين (عيناك) ورواية (الزهايمر) رحلة الألف ميل لم تنقطع حتى أثناء اعتلال الصحة!، لله درّه! كيف وفّق بين هذا الحصاد الأدبي والثقافي وعمله الكبير في الحكومة! فالإدارة فن وصناعة فكيف وإن كانت إرث أيضاً؟ فالآباء والأجداد إداريون بالفطرة! وبيوتات القصيبي إحدى بيوتات الأحساء والشرقية المعدودين بل في الخليج قاطبة! حتى انصهرت المشاعر والأحاسيس بالإدارة والعلم فتبلورت في قالب موهبة ربّانية تجتمع فيه الخصال كلها عندئذٍ يحلم المرؤوس في أي دائرة حكومية أن يكون وزيره يوماً من الأيام الدكتور غازي عبدالرحمن القصيبي!! الذكاء يجمع شتات المرء ويلملم أفكاره ويستخرج ما هو مكنون في اللاشعور وقد وجدنا أذكياء في حِرفٍ مختلفة ومواهب متعددة وصاحبنا قد قبض على أكثر من حِرفة وتعددت مواهبه ولو خُيّر أو كان هناك وقت لاستحق شهادة الدكتوراة في أكثر من تخصص واحد!! ولذلك كانت شهادته اختيار القدر وليس اختياره الذي يطمح له! ووزارة الصحة شاهدة على ذلك وهو ليس بطبيب ولكنّه عالج الأطباء قبل المرضى وأسعف أنظمة الصحة بترياق الخبرة الإدارية فكان الرضا من المواطن قبل الموظف! وبعد أكثر من ثلاثة عقود إذا ذُكرت الصحة كان اسمه لها قريناً!! الذكرى تسعف الذاكرة ثم تحط بنا عند شطآن الخليج شرقاً رافضةً إشارات المرور دون توقف! فالبدايات تشبه إلى حدٍّ كبير النهايات حين غنى وتغنى بأمواج الخليج كالابن الواله يستعين بحنان الأم في غربة قد جربّها مراراً وتكراراً وحين أنشد للأمواج الزرقاء العاتية وقلبه بين مدٍ وجزر في ليالي الداات المقمرة كقطعة من جسد ظلت كلماته عن الخليج الكبير خطوطاً بين الطول والعرض ترسم لوحة فنان عشق الخليج من ساحله الشمالي حتى مضيقه الجنوبي قد غاصت في أعماق ذاكرة الخليجي ووجدانه قبل أن تغوص في أعماق بحر لجي استقرت بين لآلئه ومحّاره وبين أصدافه وشطآنه، وتحت سماء الخليج تتنوع الخيرات من بحر ونخل ومن جبل وسهل فذاب رقة وتحركت أشجانه وهتف قلبه الوادع الغض كالسعفات الخضر الطرية التي ولد بين جنباتها فتحركت عاطفة المحب لشعر الغزل كأول الطريق في مشواره الإبداعي! ولعل الكثير لا يعلم أن قصيدة (عيناك) أول قصيدة شعرية تنشر في الصحف والمجلات لغازي عبدالرحمن القصيبي في عدد شهر صفر من سنة 1384ه - 1964م، من مجلة قافلة الزيت التي تصدر من شركة أرامكو وهي من ثمانية عشر بيتاً كلّها في العيون النجل وماذا صنعت به؟.. بحيث ألهمته بأن لايرى عيوناً كعيونها ولا جمالاً يستلهم الذكرى ويطغي على أي جمال إلا تلك العيون التي هام فيها صبابة وعشقاً حتى الثمالة وقد استقرّ به المطاف والتطواف بعد أن أبحر الملاح كثيراً عند ميناء عينيها وشاطئ رموشها الساحرة. ولا شك أن القصيدة تعبّر عن بدايات ولادة شاعر لذلك تتفاوت من الناحية الفنية بين البساطة في التعبير واستخدام الصور الفنية وبين الإجادة التي توحي بنبوغ شاعر عدّه الطائي معلمه الأول من المجددين في الشعر السعودي والخليجي في بداياته، والقصيدة من بحر (الكامل) وبها أبيات مجزوءة مرفّلة ومقطوعة صحيحة اجتزأ منها بعض الأبيات الجميلة: