عند الساعة السابعة من صباح يوم الأحد الموافق 29-2-1436ه، فُجعت بخبر وفاة شيخنا العلاّمة المحقق الدكتور عبدالرحمن بن سليمان العثيمين، فاسترجعتُ ثم رجَعت بي الذاكرة إلى ثلاث سنين مضت عندما شرفت بمعرفة شيخنا، ومنذ اللقاء الأوّل أحببت الشيخ، وأزعم أنّي مع الوقت كنت ممّن لهم محبّة عنده. الكثير يعرف الشيخ في علمه، وتواضعه، وكرم نفسه ويده، وقد سمعت وقرأت الكثير من ذلك؛ لكن في أبي سليمان جوانب كثيرة تظهر بملازمته، منها: أنّه عندما يلمس من طالب العلم حرصًا فإنه لا يمنحه الفائدة فحسب، بل يسعى في جلب ما يفيد الطالب من مصادر مخطوطة ومطبوعة ولو كان ذلك في أقصى الأرض. ومنها: تفقّده لمن يلمس منهم حرصًا على العلم، فإذا تخلّف الطالب عن مجلسه لأيام معدودة فإنّه يتّصل به ويسأل عن حاله، وسبب تخلّفه. والمواقف مع أبي سليمان كثيرة، أذكر أبرزها: موقف مع خادمه من الجنسية الهندية واسمه عبدالودود، الذي أحبّ الشيخ كثيرًا، وبرز ذلك في مرض الشيخ. في يوم الثلاثاء ثاني أيّام العزاء زرت أبناء الشيخ، فلما دخلت إذا بصوت يناديني فالتفت فإذا عبدالودود فاحتضنته لتعزيته، فجاء سليمان ابن شيخنا فقال لي: واسِه بزوجته فقد توفّيت يوم الخميس وقلنا له: نحجز لك للذهاب لأبنائك ثم تعود. قال عبدالودود: لن أذهب وبابا في المستشفى.! جلست مع عبدالودود ثم حدثني بآخر كلمة نطق بها الشيخ له، حدثني ودموعه والله ملأت محاجر عينيه، قال لي: كان الشيخ تعبان ولا يستطيع الحديث، فأبعد الأكسجين عن وجهه وقال: اتصل بأم سليمان -زوج الشيخ- فاتصلت ولم تجب، ثم بعد دقائق كرر الطلب فكررت الاتصال ولم ترد على الهاتف. يقول عبدالودود: فنظر إليّ الشيخ وقال لي: قل - لماما- تعطيك ألف ريال هدية. ومن المواقف التي أسعدتني: أنه اتّصل بي مرّة وأوصاني بإحضار شيء يخصّه، وقال لي: آمر عليك لأني أعدّك ولدي سليمان. ومن المواقف التي حضرتها: اجتماع العلاّمتين د. عبدالكريم الخضير والدكتور عبدالرحمن العثيمين، في بيت شيخنا في عصر الخميس 1-3-1435ه، وكان من ضمن الأسئلة، أن الشيخ الخضير سأل شيخنا عن أغلى كتاب في مكتبته. فقال الشيخ: الذي أحتاجه يكون أغلى شيء بوقته. وموقف آخر لا أنساه لشيخي عندما زارنا في تاريخ 3-3-1435ه معزّيًا بوفاة أخي عبدالرحمن -رحمه الله وشيخي والمسلمين- حضر مع بُعد المسافة بين بيته وبيتنا في مركز البصر، حضر رغم تعبه وتنقّله بالكرسي المتحرك، كان حضور الشيخ للتعزية بشكل مفاجئ، فمكث الشيخ بالسيارة لمسافة تزيد على ثلاثين كيلاً ذهاباً ومثلها إياباً، متعب له بعض الشيء، توقف الشيخ بسيارته عند الباب خرجت ووالدي للسلام عليه، قدم العزاء لنا ثم أبى إلا النزول والسلام على من في المجلس، فقلت له: ياشيخ هذا يتعبك، هم يخرجون لك، فرفض إلا النزول، فنزل وحملناه هو وكرسيّه المتحرّك حتى أوصلناه إلى صدر المجلس وسلّم على من فيه من الأهل والأقارب، وجلس بعض الوقت وتحدّث بشكل مقتضب ثم استأذن وخرج. كان لحضور الشيخ كبير الأثر في نفسي وأهلي، حتى أن أهلي خصوصاً الوالد والوالدة تأثّروا عند وفاة الشيخ، وكانت الوالدة تسألني عن الشيخ كل يوم منذ دخوله للمستشفى. أختم باللقاء الأخير بيني وبين العلامة أبي سليمان بعد دخول الشيخ للمستشفى، كنت أتردّد عليه بشكل شبه يومي، وكانت حالته تسوء كل يوم، حتى صار النطق عنده متعباً جداً، وكنت أحرص على عدم الحديث لكيلا يتعب بالرد، في مغرب ذلك اليوم دخلت عليه وكان عنده شقيقه عبدالله، سلمت ودعوت ثم جلست، نظر الشيخ إليّ ثم نزع الأكسجين عن وجهه وقال بصوت متقطع: البارحة كان عندي بالغرفة مجموعة من الناس وامتلأت الغرفة، وبعضهم لم يجد كرسيّاً يجلس عليه، فتمثّلت لهم: لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ولكنّ أخلاق الرجال تضيق ثم قلت لهم: من القائل؟، وما مطلع القصيدة؟ فسكت الجميع، فأخبرتهم باسم الشاعر ومطلع القصيدة وطلبت منهم أن يقرؤوها من النت، فبدأ أحدهم بقراءتها ولم يُحسن القراءة، فضحكوا عليه، فقلت لهم: لو قُرئت هذه القصيدة على محمود شاكر أو السيد صقر لبكوا وأنتم تضحكون؟!. ثم رأيت الشيخ يغالب البكاء، وسكت قليلاً ثم قال: افتح جوالك واقرأ القصيدة، ففعلت، وكان يقف عند بعض الألفاظ يشرحها، وكان الكلام عليه أشد من حمل الأثقال، لكنّه كان يتلذّذ بذلك، ويطلب قطرة حليب ليبلّ ريقه ثم يكمل، لمّا انتهيت، سكت الشيخ قرابة عشر دقائق ثم التفت وقال: أعد القراءة، ففعلت، فرأيت السرور على وجهه. ودّعته ولم أكن أعلم أنّ هذا هو الوداع الأخير، رحمك الله شيخنا وأعلى في الجنّة نزلك، «وما كان موته فقد واحد ولكنّه بنيان علمٍ تهدّما».