متنٌ في شوارع الحاضرة تعلّقتْ كَفُّ عجوزٍ بساعدي، كأنّ مرفقها لرقّته يكادُ يختفي منه الوزنُ، ترتدي رداء راهباتٍ، وقد طالَ وقوفها على حافة قارعة الطريق تأهُّباً لعبوره؛ والحقّ كان الشارعُ عريضاً ذا مساراتٍ أربعةٍ، ولم تكن واقفة بمحاذاة الإشارة المروريّة.. وأذكرُ في جلسة العصمة قال العقل: والنفس في المرء تمشي في مساراتٍ أربعةٍ، والأصل في الحكمة عند قُضاة الغيابة: أنّها ملزومة بالحقّ أن تمرّ بالمساراتِ جميعة.. ..وإن كان المسارُ على غير ذي حقٍّ، والويلُ لمن غضّ الأطراف كلّها عن ضلالاته وتشبّث بسلامة النفس معصومة من الدَّنَسِ، فالطهرُ لا يعلو الدَّنس إذا لم تلوّث أقدامه به؛ كُلُّ نفسٍ مكلومةٍ بنفسها. عبرنا عرضَ الطريقِ، ولستُ لأجزُمَ هَهُنا: أيّ الساعدين كانَ عوناً وساعداً؟ أيّنا أضفى خدمة للآخر؛ عمَّدَتْ وسمي الآرامي، قالت: «كلّ دمٍ مُهجّنٍ نصيبُهُ ممّا تلقّى هذا الخشب» وأشارت تميمة في صدرها، ثمّ كسرتْ من مسبحتها رأسَها وحطّت رمزها الخشبي في يدي، وكانت يدها تربّت على وجهي وتبارك الطريق. إلى أينَ كانَ اتّجاهي، ولماذا كنتُ راجلاً؟ تساءلت حينما انفضّ عن ساعدي غبار ردائها المبخّر، ونسيتُ حينها إلى أين؟ أو ليس ذو أهميّة - في هذا المقام - القول مثلاً إنّي كنتُ متّجهاً لمقهى السنترال بقلب البلد في صيف 1986، فإذا بمساري ينقطع عند المكتبة المعمدانيّة ناصية العبدلي. وأوصاني صوتٌ رهبتذاك: «إيّاك أن تبلّغ أحداً قبل الأربعين عن الفارق بين اسمك الحلولي واسمك في الحيلولة إن لم يكن بعارفٍ بما تقتضيه الأسماء على أصحابها وأيّ قدر تأخذهم سنّته، حتّى إذا وقف البحرُ حاجباً أهلَ الدنيا فإنّه يعصمك من الموج، ويكون عقداً تحت أمرك فاعتصمْ وابتسمْ». وكان في جلسة العصمة أن حزتُ على رضا الضحكات الطيّبات، وانشرح القلب أنّ النصر في الضحك وإن كنت مهزوماً، وعلى خشبٍ حُفر عهدُ الحيلولة والأيلولة، لأنّك تلجُ الغيابة بأيلولةٍ وحيلولةٍ غير اللتين كنت عليهما في الحاضرة، ويكون العهدُ أنّكَ امتثل للصبر الأيوبي حين مرّت عليك في الحاضرة بعض النوائب، كما أنّ العهد الأيوبيّ الذي قُدّم لك: أنّك في حلٍّ من العهدِ إذا توالت النوائب لسبعٍ حججٍ دون انفراجٍ. هامش الصورة أيُّها الحقلُ: أيّ زهورٍ أبحت لنا رؤيتها حديثاً وأيّ منها أذنت لها أن تحدّث عن عبيرها فوحاً؟ أَيّ زهرٍ هذا الذي يسألني الهُويّةَ قبلَ أنْ يأذنَ لعبيرهِ أَنْ يعبقَ في أنفي كي أشمَّ رحيقَهُ! كيف زهرٌ بخيلٌ في صحراء جرداء؟ يا رفيقة عُمري لم يعُدْ إلاَّك أُذُناً أُلقي عليها حيرتِي: بيني وبين التراب حجابٌ حامزٌ فاصلحي بيننا، وابقيَ الزمان على ما هو عليه رخيصاً،كما بدأَ؛ ما الذي حلّ بيديّ وكيف عافت الغوصَ في فلاحة الأرض! أيهما وجهي، الصورة أم المرآة ؟! بلى، الصورةُ قد تبدو نسخاً مُطابقاً للهيئةِ، لكنّك لست هيئةً: حتّى شكلك انعكاس لحالتك، فكلّ صورةٍ خاوية من جدلية الوسواس مع النفس، ولربما، ولهذا..كانتِ المرآةُ انعكاساً مغايراً، وتحريضاً للنفس على المجادلة؛ جادِلْ تقولُ الغيابةُ، هذا قدرٌ في إنسانكَ، ومكتوبٌ في الآهة: الويلُ لمن لا يحترم الأقدار. ليستِ الصورةُ الورقيّةُ صوتَ الهُويّةْ وَأنا لا أكون أنا، هَهُنَا أوْ هناكْ نِصْفُ رُوحِي طليقٌ، ونصفٌ هَلاكْ شَرَكٌ قَدْرَ ما غَابَ آبَ يَكُبُّ الأَذَيَّةْ قعدتُ على تلّةٍ بأقصى المدينة تُشرفُ على بعضها طلّاً طفيفاً، حدّقتُ طويلاً حتّى أعياني الضيقُ ولم تكن في نيّتي أنْ أحدّقَ فيها فهالني ما فعلتُ؛ إنّ أسوأ ما يعلّ القلبَ أن يُطيلَ المرءُ التحديقَ في مدينته، فلربّما أصابته بغصّةٍ مريرةٍ من حيث لا يدري، وأقعت على مقربةٍ منه كلَّ ما يُنفّرُ عن فكرة الإنسان والمدينة. في الطفولة كان ظنّي أنّ العالم ينتهي عند الخطّ الحاذق الغامق في ارتباط الأفق بآخر ما يصله النظرُ من البحر؛ كانَ الوقوفُ أمام البحر يكفي كي ترى النهاية؛ أيّهذا الوعي لماذا أفسدت على ذاك الفتى إيمانه بما يرى؟!. متنُ: لا شيء مكتملٌ في الحاضرة إنّي ها هنا، أمرّ على نفسي أوّلاً ثم أخرجُ سَالِماً مرّتين، سَلْ أهل القريتين إذاً عن سالم؟ وَأُخْرِجُ مِنهَا فِي كُلِّ مرّة زَادين أو زوّادتين.. فزاد الزوّادة الأولى معين لا ينضب،ُ له الصبرُ والمرحُ الجليل يرتضي أن يُردّد معي كلام (درويش): «على هذه الأرض ما يستحق الحياة»، وزاد الزوّادة الأخرى يرتدّ بي إلى شرك اليأس وغوايات الحنين؛ كأني لا أرى الحنينَ وهماً، إذا ما دقّ ناصيتي قارعتُهُ السكونَ والإقامةَ ،كي لا يشلّني ويقيّدني بثقلٍ من الدبق والدبس ثم لا أقوى حراكاً، أو أضلّ إذ أرددّ كلام (إيليا) في الطلاسم. وأذكرُ كلاماً للشاعر الجواهري (له خلود الذكرى وحضور قصائده) أظلّ أردّده في مقتضيات وروده، وقد سألته مذيعة على إحدى القنوات عن أهم عشر سنوات تأثّر بها، ولعلّ في ظنّها أنّه قد يحدّثها عن سنوات الحرب والحب والتاريخ العراقي المكتظّ بالأحداث والفوارق والغرائب: «قال: آهٍ منها هي السنوات العشر الأولى - سنوات الطفولة، قضيت عمري كلّه أدفع ثمنها وأصارع كي أتخلّص من آثارها».. (هامش: اللفظة هنا للمؤلف، والبناء على مقتضى ما حفظته الذاكرة من المعنى). كذا، حالُ أمّي إلهامي، تقول: «سمعت قصصاً في صغري أثّرت عليّ كثيراً، وصنعت خوفي. أحداث لا أقوى حتّى على سردها، وما زلت رغم معرفتي بأنها قصص وأساطير خاطئة إلاّ أنها تغلبني كثيراً وتقهرني». أرى الطفولة أو الحنين لها شركاً ضلّيلاً يفرد حيلَهُ؛ ربّما يعود ذلك إلى مرجوحة الوهم والواقع، فالذي يمضي تمضي قوّته وتخور كم قوّة ثور مرسومٍ على ورقة، هيهات أن يعودَ إلى الساقيّة؛ فالتفت للفرق يرحمك الله بين ثورٍ هائجٍ باتّجاهكَ تسمع ضربات قلبه وقلبكَ وبين صورته على ورقة، التفت للفرق بين وهمٍ وبين دمٍ تقول الحكمة، وتقول: كلّ واقعٍ إذا لم تكن فيه أفسدته، وأفسدت عمركَ بهذا الخروج من الدم إلى العدم، حيث الوقوع إلى (لا-قرار) في شهوةٍ ملعونة تُدعى: (زِدْ في التيهِ أيّها الضليل). وقال صاحب العهدة: إيَّاكم والحنين: مَنْ أراد أنْ يرافقني فليتجنّبه، إنَّما هو شركٌ لا يَفْلتُ مِنهُ إلا مَنْ أُوتي حظّاً عَظِيماً أو أتَ ربّه بِقلبٍ سليمْ؛ وقال: الحقُّ لا أريد لأحدٍ أن يَتْبعني، اتبعوا أَنفُسَكم، واجعلوا تلك النفس المتكبّرة تابعة لكم، لا شيء مكتملٌ في الحاضرة، وإنّ تعدّدت فيها القمصان والحيوات.