عبَّر إمام وخطيب جامع وداعية إسلامي عن أسفه لانتشار السخرية بين كثير من الناس والتنابز بينهم بالألقاب، وأن انتشار هذه الظاهرة أحد الأسباب الرئيسة في تفكك المجتمع، وتقويض تماسكه ووحدة صفه، الأمر الذي من شأنه أن يُؤثر في الرابطة القوية التي تؤطّر المجتمع الإيماني الصالح، والعلاقة التي تقوم بين المسلم وأخيه على أساس قوي من المحبة الصادقة والاحترام المتبادل والتواضع، ولين الجانب. وقال الداعية الشيخ - عبد الله بن عبد الرحمن الشهري إمام وخطيب جامع عمار بن ياسر بالرياض - في حديث له عن السخرية والتنابز بالألقاب بين الناس -: إن هذا المجتمع المبني على الأخوة لا يمكن أن يبقى موحداً، وقوياً، ومتماسكاً، إذا دبَّت فيه الأمراض الأخلاقية، كالسخرية، واللمز، والتنابز بالألقاب، فإن هذه الأمور من أهم أسباب تفكيك المجتمع، وللأسف انتشرت ظاهرة السخرية بين كثير من الناس إلا من رحمَ ربي صغاراً وكباراً، السخرية من مريض، السخرية من مستقيم، السخرية من جاهل، السخرية من فقير، السخرية من نحيل، السخرية من سمين، السخرية من أسود، السخرية من عانس، السخرية من عائلة أو قبيلة، سخرية وغمز ولمز وهو محرم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ}، ومناسبة هذه الآية لما ذكر الله تعالى في الآية السابقة: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} أن لهذه الأخوة حقوقاً وواجبات، فإذا كان المؤمنون إخوة فإنهم يجب عليهم أن يتحابوا وأن يتآلفوا، ولا يجوز لهم التقاطع، ولا إضرار بعضهم لبعض، بالسخرية والهمز واللمز والتنابز بالألقاب وسوء الظن والغيبة. وأبان فضيلته أن السخرية هي محاكاة أقوال الناس، أو أفعالهم، أو صفاتهم على سبيل استنقاصهم والضحك عليهم، بألوان المحاكاة القولية والفعلية، وقد حرّمها الشرع لإيجابها العداء، وإثارة البغضاء، وإفساد العلاقات الودية بين أفراد المسلمين، وفي صحيح مسلم: عن جابر رضي الله عنه يقول: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)، وفي سنن ابن ماجه: عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (حسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم)، وفي المسند لأحمد: عن أم هاني قالت سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قوله تعالى: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ} قال: (كانوا يخذفون أهل الطريق ويسخرون منهم فذلك المنكر الذي كانوا يأتون). وأكد أن السخرية تنافي ما يوجبه الحق، وهي ظلم قبيح من الإنسان لأخيه الإنسان، وعدوان على كرامته وإيذاء لنفسه وقلبه، ومن آثارها أنها تقطع الروابط الاجتماعية القائمة على الأخوة والتواد والتراحم وتبذر بذور العداوة والبغضاء وتولد الرغبة بالانتقام، ثم أعمال الانتقام، ما استطاع المظلوم بها إلى ذلك سبيلاً، قال ابن عباس في قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} الصغيرة: التبسم، والكبيرة: الضحك بحالة الاستهزاء، وقال ابن كثير - رحمه الله -: (هذه أيضاً من صفات المنافقين لا يسلم أحد من عيبهم ولمزهم في جميع الأحوال، حتى المتصدقون لا يسلمون منهم، إن جاء أحدهم بمال كثير قالوا: مراء، وإن جاء بقليل قالوا: إن الله لغني عن صدقة هذا). وواصل فضيلته قائلاً: إن السخرية تميت القلب وتورثه الغفلة، حتى إذا كان يوم القيامة ندم الساخر وتحسر على فعله، قال تعالى: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ}، والسخرية من الناس عاقبتها وخيمة في الدنيا والآخرة، في الدنيا قد يُبتلى الساخر بمثل ما سخر به، وفي الآخرة عذاب الله، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ}، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا}، والساخر بعيد عن ربه، قريب من الشيطان قال تعالى عن الكفار: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} قال القرطبي: (يستفاد من هذا التحذير من السخرية والاستهزاء بالضعفاء والمساكين، والاحتقار لهم والازدراء عليهم، والاشتغال بهم فيما لا يعني، وأن ذلك مبعد من الله عز وجل)، قال ابن النحاس: (واعلم أن معنى السخرية والاستحقار والاستهانة والتنبيه على العيوب والنقائص على من يضحك منه، وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول، وقد يكون بالإشارة والإيماء وقد يكون بالضحك كأن يضحك على كلامه إذا تخبط فيه أو غلط، أو على صنعته، أو قبح صورته ونحو ذلك. ورأى الشيخ عبد الله الشهري أن هناك مجموعة من الأسباب لانتشار السخرية بين الناس منها: العداوة، الكبر، التسلية وإضحاك الآخرين، مرافقة أهل السوء، محاولة الانتقاص من مكانة الآخرين، أما مظاهرها فمتعددة منها: السخرية بكلام المتكلم سواء في طريقته أو كيفيته، السخرية بصورته أو خلقته أو صوته، السخرية بلباسه، السخرية بوضعه المادي، مشيراً إلى أن من الآداب التي ينبغي أن يراعيها المؤمنون ألا يعيب بعضهم بعضاً.. ولا يطعن بعضهم على بعض.. لأن المؤمنين كنفس واحدة متى عاب المؤمن فكأنما عاب نفسه، وقد جاء الوعيد الشديد في شأن الهماز اللماز.. وهو الذي يطعن في أعراض الناس ويحقر من أعمالهم وصفاتهم.. وينسب إليهم السيئات استمتاعاً بالحطّ منهم وإظهاراً لترفعه عليهم.. قال تعالى: {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ}. وقال: إن ديننا الحنيف حرَّم السخرية والاستهزاء بالناس.. وحرّم اللمز والطعن والإساءة إلى الآخرين.. فواجب المؤمن أن يحترم إخوانه المؤمنين، وأن يتواضع لهم ويرفق بمن هم أضعف منه.. ويتأدب بأدب الإسلام الذي يجمع القلوب على المودة والمحبة والصداقة.. والذي ينهي عن كل ما يوغر الصدور ويزرع الشقاق ويثير البغضاء، قال - صلى الله عليه وسلم -: (الكبر بطر الحق، وغمط الناس) غمط الناس: احتقارهم واستصغارهم وازدراؤهم. واستعرض فضيلته بعضاً من الفروقات بين الكلمات الواردة في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ... الآية}، وقال إن بعض العلماء فرَّقوا بين: * السخرية: هي عيب من لا يستحق أن يُعاب، على وجه الاحتقار له. * الهمز: العيب في حال غياب الشخص، أي الغيبة.. وقيل: لا يكون إلا في اللسان. * اللمز: العيب في المشهد، وقيل: إنّه يكون باللسان والعين والإشارة، وكلاهما يصدق عليهم مصطلح الغيبة. * النّبز: القذف باللقب، يقال: نبزته أنبزه، أي لا تقل لأخيك المسلم: يا فاسق، يا منافق، وما شاكل ذلك. قال الشاعر: احفظ لسانك لا تقل فتبتلى إن البلاء موكل بالمنطق وقد خرج البيهقي عن الحسن البصري - رحمه الله - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن المستهزئين بالناس ليفتح لأحدهم باب الجنة فيُقال هلم فيجئ بكربه وغمه فإذا جاء أغلق دونه ثم يفتح له باب آخر فيُقال: هلم هلم فيجئ بكربه وغمه فإذا جاء أغلق دونه فما يزال كذلك حتى إن الرجل ليفتح له الباب، فيُقال هلم هلم فلا يأتيه من اليأس)، وقال بعض أئمة التفسير في قوله تعالى: {بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} من لقب أخاه وسخر منه، فهو فاسق حكاه القرطبي. وأهاب فضيلته بكل من أراد أن يُدخل السرور والفرح على آخر بأن يراعي: ألا يكون فيه شيء من الاستهزاء بالدين، وألا يكون كلامه إلا صدقاً، وألا يكون فيه سخرية أو استهزاء بالآخرين، وألا يُروِّع أخاه، وألا يسترسل ويبالغ ويطيل، وأن يُنزل الناسَ منازلهم، وألا يكون فيه غيبة، وألا يكون مع السفهاء. قال الشاعر: احفظ لسانك أيها الإنسان لا يلدغنك إنه ثعبان كم في المقابر من قتيل لسانه كانت تهاب لقاءه الشجعان وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: يخاطبني السفيه بكل قبح فأكره أن أكون له مجيباً يزيد سفاهة فأزيد حلماً كعودٍ زاده الإحراق طيباً وختمَ الشيخ عبد الله الشهري قائلاً: على من أُبتلي بهذه الظاهرة أن يُعالج نفسه بأمور منها: تقوى الله في السر والعلن، محاسبة ومعاهدة النفس ومراقبتها لله، كثرة الاستغفار والدعاء، الحذر من التعرض لمعصية الله وسخطه، أحب للناس ما تحب لنفسك، الحذر من تبدُّل الأيام فيُعافي الله المبتلى ويبتليك أنت، النظر بعين التعقل في الكلام قبل النطق فيه {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}، تذكَّر القبر وأهوال يوم القيامة، إشغال الوقت فيما يرضي الله وفيما يعود عليك بالنفع والفائدة من خيري الدنيا والآخرة.