من المخالفات الخطيرة، والذنوب الكبيرة، التي يقع بها بعض الناس، ويُبتلى بها بعض ضعاف الإيمان والدين والعقل والإحساس: الاستهانة بالأب، وتهميش دوره، واحتقاره غير المباشر، خاصة عندما يكون كبيراً في السن، متقدماً في العمر، فكثير هم الذين تغرهم صحة أجسامهم، وتخدعهم شهاداتهم وأموالهم، وتؤثر بهم مستجدات حياتهم، فيقعون في هذه الجريمة النكراء، فلا يعتبرون آباءهم، ولا يعدونهم إلا كقطع أثاث في بيوتهم. والله إن أحدهم ما علم بزواج ابنته، إلا عند كتابة عقد نكاحها، وآخر توفيت أمه، وغُسلت، وكُفنت، وصُلي عليها ودُفنت، ولم يحضر شيئاً من ذلك؛ لأنه كان في خصام معها قبل وفاتها، فإن كان هذا فعله بأمه فكيف تكون حاله مع أبيه؟ أما الشباب، فتجد أكثرهم لا يعترفون بآبائهم إلا عندما يحتاجون إلى شيء من المال. ولا شك أن هذه الظاهرة الخطيرة فيها دليل واضح، وبرهان بيّن، على بُعد من بُلي بها عن دينه، وقلة خوفه من ربه، وإنكاره وجحوده لواجب أمره الله - عز وجل - به وحثه عليه، بل فيه دليل على مخالفة أمر الله - عز وجل - وارتكاب نهيه؛ إذ نهى عن العقوق، وأمر بالبر والإحسان، يقول عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا. وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}. فالله - عز وجل - أمر بحقه، وهو عبادته وتوحيده، وأتبع ذلك بحق الوالدين، وهو الإحسان بأشكاله وأنواعه {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ}. لا حظ - أخي القارئ الكريم - كلمة عندك، فقد كنت عندهما، وهم اليوم عندك، {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا. وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}. فالاستهانة بالأب وعدم اعتباره وتهميشه جريمة خطيرة، وكبيرة من كبائر الذنوب، ولها آثار سيئة، فقد تؤدي إلى تنوع وكثرة أمراضه النفسية والعضوية، بل قد تكون سبباً في تعاسته وشقائه فيما تبقى من أيامه، فيكون الموت أغلى غائب ينتظره، خاصة عندما يقارن بين ماضيه، الذي كان فيه يأمر وينهى، وينصح ويوجّه، ويعاتب ويؤدب، وبين حاضره السيئ، حيث لا كلمة له، ولا رأي ولا قدرة، إنما هو كالضيف الثقيل، ينتظر من حوله رحيله، بل يتمنى بعضهم زواله؛ ليكون حراً طليقاً من بعده. إن تهميش الأب، وعدم اعتباره، ما هو إلا من باب عدم تقديره، وتجاهل قيمته، والاستهانة بمكانته، ولا شك أن هذا من العقوق، بل العقوق بعينه الذي نهى الله - عز وجل - عنه، وحذر منه، فإن كانت «أف» عندما تقال للوالد تضجراً يعتبرها الدين كبيرة من كبائر الذنوب، وهي مجرد حركة قد لا ينتبه لها الوالد، ولا يحس بها، عندما يقوم بها أحد أبنائه، فكيف به وهو يرى أبناءه وقد سحبوا منه صلاحياته، وجعلوه محتفظاً لنفسه بتجاربه وخبراته، فهم لا يرونه شيئاً بينهم، ولا قيمة لكلمته أو رأيه عنهم. ولا شك أن العقوق كبيرة من كبائر الذنوب؛ ففي الحديث الصحيح، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الكَبَائِرُ؟ قَالَ: (الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ) قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: (ثُمَّ عُقُوقُ الوَالِدَيْنِ). فليحذر الأبناء عقوق آبائهم؛ فقد يكون ذلك سبباً لتعاستهم وشقائهم في الدنيا قبل الآخرة، وما هو إلا دَين في أعناقهم، وسوف يجدون سداده من قِبل أبنائهم، والجزاء من جنس العمل. ففي الحديث صحيح الإسناد عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (كُلُّ الذُّنُوبِ تُؤَخَّرُ إِلَى مَا شَاءَ الله إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلَّا عُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ، فَإِنَّهُ يُعَجِّلُهُ لِصَاحِبِهِ فِي الْحَيَاةِ قَبْلَ الْمَمَاتِ).