الفنون التشكيلية إذا نظرنا إليها بوصفها فعلاً إنسانياً جمعياً فإنها تتطلب عدداً من المقومات البيئية لكي تعيش وتنمو وتُزهر؛ كونها ممارسة إبداعية خلاقة تضيف للمجتمع, وتبني أركانه وفكره وثقافته، ولعل أول أولويات نشوء الفعل التشكيلي هو الوجود على أرض الواقع, والاعتراف الرسمي به وبممارسه الأول الفنان التشكيلي على أنه مثقف من طراز خاص، وأنه صاحب رسالة تحمل كثيراً من الرؤى والأفكار والأبعاد, فلابد من توفير الإعداد الجيد له والدعم المناسب بدءاً بتأسيسه وتأهيله والتواجد الحقيقي للدراسة الأكاديمية بجميع مستوياتها, وتهيئة الظروف المحيطة بها من دور عرض ومتاحف, واقتناء أعمال, ورعاية للفنان وأعماله, وصولاً إلى تفريغ الفنان لممارسة الفن وجعله صاحب مشروع مستقل، ولعل التفرغ للفن من أبسط الحقوق الرسمية للفنان فعلى سبيل المثال باريس وحدها فيها أكثر من12 ألف فنان متفرغ, ويصرف لكل فنان معونة شهرية من الدولة. ولكن يبدو مثل هذا الاعتراف والتقدير عصياً على التنفيذ في الساحة المحلية, ليس لندرة وقلة الدعم المادي, ولكن حال مؤسساتنا الثقافية لا يؤمن بالفنان التشكيلي على أنه مثقف أو مؤثر في الحراك الثقافي والاجتماعي, وهذا ما يعود دوماً بنا للمربع الأول في الموضوع وهو الاعتراف الرسمي بالفنان وبالممارسة الفنية التشكيلية، فالفنون البصرية ابن غير شرعي لثقافة لفظية لم تعترف بثقافة الصورة وأهميتها, رغم هيمنة ثقافة الصورة وسطوتها على مستوى العالم وبمختلف ثقافاته وأقطاره إلا أنها لازالت قاصرة لدينا، وبالنظر لحال الفنون التشكيلية المحلية نجد جمعية التشكيليين التي أسست على استحياء, وقدمت على شكل مشروع لم يكتمل, وألقي بها في معترك المتطلبات دون دعم مستمر ولا مقرات ولا استقلالية كاملة, مع أنها مؤسسة مجتمع مدني, وهي لازالت تصارع لتعيش ولسان حالها كمن ألقاه في اليم مكتوفا وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء، أما في جمعية الثقافة والفنون بفروعها المتعددة التي تسكن معظمها مقرات بالإيجار, وعلى معونة مقطوعة لم تتغير منذ أن كانت ستة فروع وحتى وصلت ستة عشر فرعاً حالياً وبذات المعونة ترعى أجناساً متنوعة من الفنون وجهودها غير مختصة بالفنون التشكيلية فقط, وإنما موزعة بين مسرح وخط عربي وتصوير ضوئي وفنون شعبية وغنائية.... ولا يختلف الحال كثيراً في بقية المؤسسات الحكومية التي تعنى بالفنون التشكيلية كاهتمام فرعي وغير أساسيفلا بنية تحتية, ولا رعاية مستمرة, وإنما مشاريع ومعارض وقتية لا تسد رمق الفنان ولا تقارن بشيء من الرعاية العالمية ويكفينا من المقارنة أن نقارن عدد صالات العرض بالساحة التشكيلية المحلية بعدد صالات العرض والجاليرات في نيويورك فقط والتي تظم بين جنباتها أكثر من 1000 صالة عرض وجاليري فنون تشكيلية... توريقة أخيرة: كم هو مضنٍ عمل الفنان في بيئة لا تؤمن به... ولكن الإبداع يخرج من رحم المعاناة.