فجعت المملكة العربية السعودية مساء يوم السبت 20-1-1435 ه، الموافق 23-11-2013م بوفاة صاحب المعالي الأستاذ الدكتور محمد بن أحمد الرشيد وزير التربية والتعليم الأسبق. وبهذا الخطب الجلل، والحدث العظيم، والمصاب الأليم، ودعت بلادنا ابناً باراً من أبنائها، ورجلاً فذاً من رجالاتها، ومربياً فاضلاً من مربيها، وعالماً جليلاً من علمائها، ورمزاً من رموز الخير والعطاء والنماء، وعلماً من أعلام المحبة والمودة والوفاء، ونموذجاً من نماذج التعاون والتآخي والإباء، نذر نفسه ووقته وجهده في سبيل خدمة دينه ثم مليكه ووطنه. ويجمع الذين يعرفون هذا العالم الجليل والمفكر الأصيل على أنه رجل استثنائي آتاه الله الحكمة والذكاء، والعمق في التفكير، وبُعد النظر، والفطنة وسرعة البديهة، والقدرة على العزم والحسم في المواقف المهمة، وغير ذلك من الصفات القيادية. ومن منطلق أن الناس شهود الله في أرضه، وبحكم عملي تحت قيادة هذا المربي الفاضل أثناء فترة عمله في الوزارة تسع سنين متواصلة، وعلى أساس قربي منه وتتبعي لجهوده ونشاطاته حتى وفاته -يرحمه الله-، فإنني أستميح أخي القارئ العزيز عذراً لأتحدث قليلاً عما أعرفه عن هذا الرجل، ولكن كيف؟.. ومن أين أبدأ حديثي؟.. هل أتحدث عن حب أبي أحمد -كما كنا نكنيه- وإخلاصه وتفانيه في سبيل خدمة دينه ثم مليكه ووطنه؟.. أم عن افتخاره واعتزازه وانتمائه إلى قيادته وأمته ووطنه؟ أم عن فكره التربوي الأصيل؟ أم عن القيم النبيلة، والمعاني السامية، والمبادئ العظيمة، والأفكار النيرة، والرؤى الواضحة، والتطلعات الكبيرة التي جاء بها إلى الوزارة، وجسد كثيراً منها في شعارات كان يرددها، أهمها المقولة الشهيرة: «وراء كل أمة عظيمة، تربية عظيمة»، وكنت أداعبه أحياناً فأقول: «ووراء كل تربية عظيمة، تربية خاصة عظيمة»، أم عن إيجاده بيئة عمل تسود فيها المحبة والمودة والإخاء، وروح الفريق الواحد، والعمل الجماعي، والرأي المشترك، والصراحة والشفافية، واحترام مرؤوسيه مع أسلوب محاسبي متحضر، أم عن تواصله المستمر مع زملائه من خلال أحاديثه اليومية، واجتماعاته الأسبوعية والشهرية، ولقاءاته السنوية؟.. أم عن إنسانيته وحبه لزملائه وحرصه على تحسين أوضاعهم مادياً ومعنوياً، وتتبع أحوالهم بحيث يكون أول المهنئين في الأفراح، وأول المواسين في الأتراح؟ أم عن المشروعات العملاقة التي عج بها الميدان التربوي، وكان وأبرزها من وجهة نظري: - دمج الأطفال ذوي الاحتياجات التربوية الخاصة في مدارس التعليم العام. - اكتشاف الموهوبين ورعايتهم. - المشروع الشامل لتطوير المناهج. - المدارس الرائدة. - دمج التقنية بالتعليم. - التقويم الشامل. - اختبار كفايات المعلمين. وأستميح أخي القارئ العزيز عذراً -مرة أخرى- لأتحدث بشيء من التركيز على همي الأكبر، وهاجسي الأعظم، وعشقي في الحياة، وهو التربية الخاصة التي انتقلت من أجلها من جامعة الملك سعود إلى وزارة التربية والتعليم، عندما كلفني أبو أحمد -يرحمه الله- بالإشراف عليها، ووعدني حينذاك -مثلما وعد الكثيرين غيري ممن استقطبهم للعمل من خارج الوزارة، أو الذين كلفهم بمهام معينة من داخلها- بأن السماء هي حدودنا، الأمر الذي يحتم على كل واحد منا أن يقف وقفة صادقة مع نفسه، ويتساءل ما الذي تحقق من ذلك الوعد؟. ومع تسليمي التام بعدم قدرة الإنسان على تحقيق كل ما يريد، إلا أنني أسجل شهادة حق هنا، مفادها أن أبا أحمد قد استطاع بكل صدق وأمانة أن يترجم توجهات قيادتنا الحكيمة بإيلاء ذوي الاحتياجات التربوية الخاصة كل العناية والرعاية والاهتمام والدعم غير المحدود إلى قفزات كمية ونوعية هائلة سوف يسجلها التاريخ التربوي بأحرف من نور، فقد بلغت التربية الخاصة أوج عزها، وعاشت عصرها الذهبي في عهده -يرحمه الله-، فلم تعد التربية الخاصة تتركز في المدن ذات الكثافة السكانية فحسب، وإنما اتسعت ببرامجها وخدماتها لتشمل المدن الأقل كثافة، بل وحتى القرى والأرياف في مملكتنا مترامية الأطراف، ولم تعد مقصورة على فئات ذوي الإعاقة التقليدية المعروفة، وهي: المكفوفون والصم وذوو الإعاقة العقلية، بل امتدت لتشمل فئات أخرى كثيرة مثل: الموهوبين والمتفوقين، وضعاف البصر، وضعاف السمع، وذوي صعوبات التعلم، وذوي الإعاقة الجسمية والحركية، والتوحديين، ومتعددي العوق، وغير ذلك من الفئات التي تندرج في نطاق المفهوم الشامل الحديث للتربية الخاصة، كما أن أنماط تقديم خدمات التربية الخاصة في المملكة قد تعددت، فأصبح لدينا معاهد داخلية، ومعاهد نهارية، وفصول خاصة ملحقة بالمدارس العادية، وبرامج غرف مصادر، وبرامج معلم متجول، وبرامج معلم مستشار، وبرامج متابعة في التربية الخاصة، مما أدى إلى تلبية احتياجات الأطفال ذوي الاحتياجات التربوية الخاصة على اختلاف فئاتهم. والمهم أنه ظل -يرحمه الله- يضع التربية الخاصة في أول سلم أولوياته ويحمل همها حتى مماته، وكان كلما رآني يسألني عن أحوال ذوي الاحتياجات التربوية الخاصة وأولياء أمورهم، ومدى استفادتهم من خدمات التربية الخاصة وبرامجها في جميع أنحاء المملكة. وكان آخر لقاء جمعني به -يرحمه الله- في سبتيته البهيجة بمنزله العامر قبل وفاته بأسبوعين، تلك السبتية التي تجمع الأحبة والأصدقاء، والسادة والعلماء، والبسطاء والنبلاء، وكان يملؤها بهجة وسروراً، وسعادة وحبوراً، ومحبة واحتراماً، وحيوية ونشاطاً، ويضفي عليها جواً مفعماً بالحميمية والأريحية، يتجلى فيه صفاء روحه، ونقاء قلبه، وطيب سريرته، وأصل معدنه، ورقي تعامله، وسمو خلقه. وكان من طبعه أنه يستقبل الناس بحرارة ويودعهم بحرارة كذلك، بل إنه يشعر كل واحد من الحاضرين في السبتية بمكانته وأهميته، ويذهله بمتابعته لنشاطاته وجهوده حتى صار كل واحد منا يظن أنه الأقرب إلى قلب أبي أحمد، ذلك القلب الكبير الذي وسع الناس جميعاً فأحبوه جميعاً، وليس أدل على ذلك من الجموع الغفيرة التي أدت الصلاة عليه، ومشت في جنازته، وترددت على منزله أيام العزاء. وعندما ودعته في اللقاء الأخير شد على يدي وأوصاني بألا أغيب طويلاً، فوعدته باللقاء قريباً، لكن قدر الله حال دون ذلك في الدنيا، وأرجو من الله -سبحانه وتعالى- أن يخلفه باللقاء في الجنات العلا. ولا شك أن وفاة هذا المربي الكبير تعد خسارة كبرى للمربيين والتربويين، بل وللوطن كله، غير أن أكثر المتأثرين برحيله، وأكبر المتألمين لفقده هم زوجته وأولاده وبناته، إذ إنهم قد ودعوا أعز وأعظم وأعطف وألطف إنسان في حياتهم، وفي كل الأحوال فإنه لا يسعنا في هذا المقام إلا أن نقول ما يرضي ربنا: {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}، وندعو الله -سبحانه وتعالى- أن يرحم أبا أحمد رحمة واسعة، وأن يسكنه الفردوس الأعلى من الجنة، وأن يجعل كل ما قدمه في موازين حسناته، وأن يلهمنا ويلهم أهله وذويه الصبر والسلوان، إنه ولي ذلك والقادر عليه.