قبل أن يظهر فن (التمثيل) - مسرحيًّا، ثمَّ سينمائيًا، ثمَّ تلفزيونيًّا -كان القدامى يعتمدون في توثيق أحداثهم وشخصياتهم المهمَّة على صناعة ونحت (التماثيل) التي تخلِّد ما يريدون له الخلود، وتبقيه في ذاكرة العامَّة من عصرهم والعصور التي تليه إلى ما شاء الله.. أما فنون الشعر والرسم والموسيقى، فهي وإن كانت الأرقى والأعمق في التوثيق الإبداعيّ، غير أنَّها كانت وستظل موجَّهة للنخبة المُثقَّفة، بمعنى ثقافة الاطِّلاع والمعرفة، على عكس (التماثيل) التي تعرض على النَّاس -قديمًا- كمعالم يراها الجميع من كل الطبقات والنواحي.. وكذلك الحال مع (التمثيل) في عصرنا الحديث -حاليًا- فهو لم يعد مسرحًا يتوجه النَّاس إليه، ولم يبق محصورًا في صالات السينما، بل هو الآن قد أصبح (شاشة) مفتوحة دائمًا، أن على جهاز التلفزيون أو الكمبيوتر أو الهاتف الجوال.. لذلك نجد الآن (الدراما التلفزيونية الرمضانية) تعيش حالة استثنائية مع (التوثيق) للأحداث غير العادية التي مرَّ ويمرُّ بها العالم في الفترة الأخيرة، فالثورات التي عاشتها وتعيشها منطقتنا العربيَّة -تحديدًا- لم يستطع أحد توثيقها مثل ما يفعل المصريون بواسطة فن (التمثيل) الذي لا أحد ينافسهم عليه عربيًا؛ فالمسلسلات المصريَّة في هذا الموسم الرمضاني -كما في الموسمين الماضيين- قد جاء بعضها بتفصيلات لمجريات الأحداث كانت طي الكتمان، وبعض المسلسلات كان لا يفصل بين تصويرها وعرضها سوى بضعة أيَّام لتتزامن مع تطوّرات الأحداث على أرض الواقع.. مع أن ذلك قد يوقع العمل في سقطات التعجُّل إلا إذا كان القائمون عليه مبدعين بطبيعتهم - ومعظمهم كذلك - فهم الأوائل في صناعة التماثيل وفن التمثيل أساسًا وتأسيسًا.. وعلى كثرة الأحداث المحورية التي مرَّت بالمنطقة مؤخرًا، بداية من العراق وما حدث له ولرئيسه صدام حسين، مرورًا بتونس واليمن، ثمَّ ليبيا التي رأى النَّاس فيها مشهدًا لم يحدث مثله في التاريخ كلّّه، ولا حتَّى مشهد سحل الرئيس الإيطالي في عهد الحركة الفاشية (بينيتيو موسوليني) حين مثَّل الشعبُ الإيطالي بجثته بعد إعدامه من قبل جبهة التحرير الإيطالية عام 1945 - وهو مشهد موثق تلفزيونيًّا - لم يكن بتلك الصُّورة الخطيرة التي نقلتها الشاشات مباشرة حين تخلَّص الشعبُ الليبيُّ من زعيمه (معمر القذافي) الذي كان عميد الرؤساء -أقدميةً- بين دول العالم كافة؛ وظلَّ المشهدُ الواقعيُّ وحده دليلاً وشاهدًا في الذاكرة العامَّة بمنأى عن التفصيل.. أقول، حتَّى ما حدث في العراق وليبيا، وتونس واليمن وسوريًا حتَّى الآن، لم يوثقه أحد كما يفعل المصريون في توثيق ثوراتهم.. فمنذ ثورة الجيش المصري (حركة الضباط الأحرار) على الملكية في مصر، وحتى ثورتهم الأخيرة على سلطة (الإخوان).. كان فن التمثيل في مصر، سينمائيًا وتلفزيونيًّا على وجه الخصوص، هو الأكثر دقة وإتقانًا في التوثيق، متفوقًا على كلّ الوسائل الأخرى من برامج وحوارات وتحقيقات.. فما نشاهده حاليًا، على شاشات الدراما التلفزيونية الرمضانية، لا يحكي ويجسِّد ما حدث ويحدث في مصر فقط، بل هو الشاهد الحيّ الذي ستتشكّل منه (الوثائق) التي ستظل عالقة في أذهان النَّاس بعامة، لتكون (الذاكرة) التي تعتمد عليها الأجيال اللاحقة في معرفة الخطوات التي وصلت بهم إلى حيث سيكونون واقفين.. أكتبُ هذا الكلام وأنا أتابع باهتمام لا يخلو من المتعة بعض المسلسلات التلفزيونية التي تعرضها القنوات الفضائية في الموسم الرمضاني الذي نعيشه الآن، وليس أوضح من كون (الدراما المصريَّة) بمسلسلاتها الكثيرة كانت نابعة - في أغلبها - من إرهاصات الأحداث التي أخذت الشارع والميادين هناك إلى ثورتي 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013 الأخيرتين، لتوثقهما أفضل توثيق أحسبه سيبقى في الذاكرة، كما بقي توثيق الأفلام والمسلسلات التلفزيونية (المصريَّة) التي عرضت على النَّاس خفايا الثورات السابقة منذ عهد ملكية الباشوات حتَّى عهد الرؤساء العسكر.. ولعل من الطريف والجدير بالذكر أنني، وفي أثناء كتابة مقالتي هذه، أتتني رسالة إلكترونية من المجموعة البريدية للشاعرأحمد العلي تحتوي على رابط لحوار أجرته مجلة اليمامة مع الشاعرة فوزية أبو خالد مؤخرًا، كان عنوانه العريض مثيرًا (ولدتُ يوم العدوان الثُّلاثي وأعيش ببطاقة أحوال شقيقتي المتوفاة) مما جعلني اقرأ الحوار لأجد فيه قولها التالي: (لصرخة ميلادي سر سأفصح عنه لأوَّل مرَّة، ولدتُ في مكَّة المُكرَّمة عام 1958 في ذات اليوم الذي حصل فيه الاعتداء الثلاثي على مصر من قبل بريطانيا وفرنسا وإسرائيل..) ومع قراءتي لهذه المعلومة استحضرت ذاكرتي فورًا فيلم (ناصر 56) من بطولة الممثل الراحل أحمد زكي، لأقول: إن ثمَّة خطأ في المعلومة التي ذكرتها الشاعرة، فالعدوان الثلاثي على مصر وقع عام 1956 حتى إنه كان عنوانًا لذلك الفيلم الذي تدور أحداثه كلّّها عن تأميم جمال عبد الناصر لقناة السويس ومِنْ ثمَّ الاعتداء -أو العدوان- الثلاثي الذي قامت به الجيوش البريطانية والفرنسية والإسرائيليَّة على مصر؛ وكل ذلك وقع في العام 1956 وليس 1958 كما جاء في قول الشاعرة.. فإما أن يكون ثمَّة خطأ مطبعي من المجلَّة في كتابة التاريخ -وهو الأرجح- وإما أن تكون الشاعرة الدكتورة فوزية أبو خالد قد ولدت بعد العدوان الثلاثي بعامين (!) فالانتباه المباشر لمثل هذا الخطأ البسيط في التاريخ قد يكون من البديهيات المعرفية لِكُلِّ مطلع على التاريخ السياسي الحديث في المنطقة، ولكنَّه أيضًا قد أصبح من البديهي لعامة النَّاس الذين شاهدوا الفيلم السينمائيّ الشهير، الذي عرض ويعرض كثيرًا على الشاشات ويحمل تاريخ العدوان عنوانًا له.. فهل ثمَّة توثيق أكثر جماهيرية واستحضارًا في الذاكرة العامَّة من التوثيق بالتمثيل..؟! [email protected] الرياض