شهدته في رواق وزارة الثقافة العراقية. وقد شهدت قبله ومثله الكثيرين، يمشون في أروقة وزارة الثَّقافة. كان واقفًا قرب عمود كونكريتي مثل عمود كونكريتي، تقابله غرفة طولية تضم عددًا من المُوظَّفات والمُوظَّفين. شاب حزين وسعيد. حزين داخليًّا وسعيد في ملامح وجّهه الذي يرسم ابتسامة فرح مرسومة لا على وجهة بل هي على غلاف حقيبته اليدوية. وقفت إلى جانبه. سلّمت عليه. فتح الحقيبة وأهداني كتابه الذي صدر عن وزارة الثَّقافة وهو مجموعة قصصية بعنوان «... صدر الكتاب لمناسبة بغداد عاصمة الثَّقافة العربيَّة. وقع لي الأهداء. شكرته. تصفحت الكتاب وأنا مولع بالشكل أحيانًا قبل المضمون. كانت طباعة الكتاب أنيقة والورق يسمونه الأصفر النباتي في لغة الطباعة والمطابع. الكتاب جميل. أين تمَّت طباعته. في القاهرة. كم تسلَّمت من الأجر ثمنًا للكتاب؟ 200 نسخة! هذا طبيعي أن يحصل المؤلِّف على نسخ من كتابه لكي يهديها للصحافة وللكتَّاب والأدباء. وهل من ثمن للإبداع الذي لا يقدر بثمن؟ كان هناك ثمنٌ ما يعادل أقل من الألف دولار بقليل حسب سعر تصريف العملة الصادر من البنك المركزي العراقي. وهل تسلَّمت المبلغ؟ كلا. طبعوا لي مقابل هذا المبلغ رواية؟ وهذا بالنِّسبة لي مكسبٌ كبيرٌ! صراحة لم أفهم هذه الطريقة في طباعة الكتب. دعني أترك ما يصيبني بالدوار للمحاسبين ولمدققي الحسابات القانونيين، كيف تتم التسوية حسابيًّا! ولكن لماذا أنت واقف هنا مثل هذا العمود صامدًا صامتًا؟ قال بعيدًا عن الأدب وطبع الكتب فإنَّ راتبي الذي أتقاضاه هو أقل من أربعمائة دولار، وهي لا تكفيني قياسًا بغلاء المعيشة. وعندي من الحقوق القانونية ما يسمح لي بتقاضي ضعف المبلغ. إلى آخره...!!! كان الرَّجل ينتظر أن تنجز إحدى المُوظَّفات في القسم الذي أمامه تصدير كتاب الوظيفة كي يأخذ نسخة منه. هذه الإجراءات حسب خبرتي الحالية، قد تأخذ عامًا أو ينيف! الكاتب والأديب فرحان كثيرًا وهو يحمل حكاياته الإِنسانيَّة وقصصه القصيرة في حقيبته يهديها كُلَّما مرَّ صديق في رواق الوزارة. وفرحان كثيرًا بأن الوزارة طبعت له كتابًا ثانيًّا مقابل الألف دولار التي لم يتسلمها وأنا لا استطيع أن أفهم كيف تتم تسوية الأمر حسابيًّا. سوف يعود إلى أهله وحقيبته أخف من الحقيبة التي خرج بها، حيث يشعر أنّه أنجز بعضًا من مهامه عسى بعد عام أو ينيف أن يعود لأبنائه وزوجته في قميص جديد أو خبزة عافية جديدة! لا الكتاب يباع سادتي ولا الكتّاب يتابعون الإصدار الجديد. ربَّما يقرأ بعض الكتّاب من الأصدقاء بحكم العلاقة أو بحكم المجاملة. لم يعد أحد يقرأ الأعمال الأدبيَّة والقول: إن الكتاب يكتب في مصر ويطبع في لبنان ويقرأ في العراق هو قول قديم مضى وعفا عليه الزَّمن والوقت. مخازن وزارة الثَّقافة اختنقت بالكتب الصادرة ولا يعرفون كيف يوزعونها على الناس. توجد أموال وتخصيصات ماليَّة لطباعة كتب لمناسبة بغداد عاصمة الثَّقافة. وتوجد تخصيصات ماليَّة كبيرة لإنتاج الأفلام السينمائية لمناسبة بغداد عاصمة الثَّقافة. فلا الأفلام يشاهدها أحد حيث لا وقت ولا حرية ولا أمان لِلنَّاس أن تذهب لصالات السينما، ولا كتب وزارة الثَّقافة تباع في المكتبات. مسؤول المخازن في وزارة الثَّقافة العراقية يتمنى أن تعقد اللقاءات الصحفية فيضع منظمو اللقاءات كتب الوزارة على المنضدة يتناولها المارَّة في أروقة منتديات الثَّقافة. شيء يدعو إلى الحزن لو توغلنا في أحوال الكتَّاب والأدباء وهم يجدون في عام بغداد عاصمة الثَّقافة فرصة لطبع كتبهم لا يسمع عنها أحد في عالمنا العربي. وكثير من الكتب المهداة بين الأدباء العراقيين والعرب تجدها في شارع المتنبي وهو الشارع الذي تباع فيه الكتب الجديدة والقديمة. تجدها وعليها إهداء المؤلِّف. مؤلف طموح حالم يهدي كتابًا لمثقف كبير معتقدًا أن هذا المُثقَّف سوف يشغل وقته بقراءة الكتاب، وحقيقة الأمر أن هذا المُثقَّف إما أن يلقيه في أول صندوق قمامة أو يعطيه لأحد الأدباء الشباب، وهؤلاء الشباب تضيق غرفهم بالكتب والكتب النادرة فيجمعون ما بحوزتهم من كتب وبضعونها على الرصيف في شارع المتنبي وكثيرًا ما تجد كتب قديمة وأخرى قديمة جدًا مهداة من المؤلِّف إلى شاعر أو كاتب معروف، تجدها على رصيف الشاعر وعليها إهداء وتوقيع المؤلِّف الذي يبقى يحلم أن يكون مؤلفه مقروء من فلان الفلاني! مسكين المُثقَّف الجديد.. وبالتحديد في العراق! [email protected] سينمائي وكاتب عراقي مقيم في هولندا