أنقل في السطور التالية اقتباسا من كتاب للصحافية الأمريكية كارين هاوس التي زارت السعودية وعاشت فيها لعدة سنوات: الطفل المولود في السعودية ينشأ في مجتمع جاف ومنقسم على نفسه. لآلاف السنين كافح السعوديون (تقصد عرب الجزيرة) من أجل البقاء في صحراء شاسعة تحت شمس حارقة ورياح لاسعة تستنزف قوى الإنسان بسرعة أثناء بحثه عن ظل شجرة والقليل من الماء في أحد الوديان، وهذه الأشياء قليلة العدد ومتباعدة المسافات، وبهذا اعتادوا العيش على القليل من التمر وحليب الإبل. هذه الظروف أنضجت شعبا كثير الشكوك، فيما بين أفراده أنفسهم، ولكن خصوصا تجاه الغريب، وأنشأت نمط عيش (culture) خال إلى حد كبير من الفنون وإمكانيات التمتع بالجمال. حتى هذا اليوم ما يزال السعوديون متقوقعين داخل شرانقهم الخاصة، مركزين على وجودهم الخاص وانتمائهم العائلي، بدون اهتمام بالآخرين إلى حد كبير. بينما أنتج التعايش في الصحراء خارج المدن التزاما بالكرم وحسن الضيافة حتى تجاه الغرباء، فإن الحياة في المدن السعودية تصد الأجانب وتقضي بذلك على أية فرصة لإمكانيات استضافتهم. ما عليك سوى أن تتجول في أي من الشوارع المملوءة عادة بالأتربة والقمائم المتطايرة في أي منطقة سكنية، وسوف تلاحظ أن كل ما تراه هو الجدران. على يمينك وشمالك سوف تجد جدرانا من الإسمنت والحديد وأسوارا بطول عشرة إلى اثني عشر قدما. واجهات الأحياء السكنية عندنا في الغرب تظهر مداخل عشبية وأحواض زهور وعتبات مداخل إلى البيوت وأبوابا تبدو كما لو أنها تدعوك للدخول، ولكن الجدران في السعودية موجودة لتغلق دون الغرباء نحو الخارج، ولتغلق أيضا على الناس الساكنين خلفها. كلما زادت الجدران ارتفاعا وفخامة، كلما كان الساكنون خلفها أكثر ثراء وترفا. بالرغم من ذلك وفي كل الأحوال، أغنياء أو فقراء، أمراء أو أناس عاديون فإن كل السعوديين يعيشون في حالة انغلاق. انتهى الاقتباس عندما قرأت تلك السطور شعرت للوهلة الأولى بالإهانة والسخط على الكاتبة الأمريكية، وقلت لنفسي كم يكرهنا هؤلاء الخواجات ويتعالون علينا. لا يبحثون عندنا سوى عما يستطيعون به تقديمنا لقرائهم بأقصى درجات السلبية والتشويه. إبرازهم سلبيات مجتمعات الآخرين يخدم عندهم عدة أهداف، أهمها حرص المؤلف على البيع والانتشار، ولكن من ضمنها أيضا الاستمرار التاريخي في دغدغة كوامن الجنس الأبيض الغريزية بالتميز الجيني على أجناس الأرض الأخرى، ما زالوا يحتاجون إلى لوازم تبريرية أخلاقية وسياسية واقتصادية لاستمرار التحكم والسيطرة. هذا ما قلته لنفسي أثناء ثورة الغضب. بعد أن هدأ انزعاجي قليلا رجعت إلى ما أريد تعويد نفسي عليه منذ زمن طويل ( ولم أنجح فيه بعد بالكامل ) محاولا النظر إلى نفسي ومجتمعي وحضارتي بعيون وعقول ومفاهيم الآخرين. أما مسألة الكرم وحسن الضيافة التي شككت فيها الخواجاية الصحافية فقد أخطأت فيها بوضوح، لأنها قضية محسومة لصالحنا، ولدرجة السذاجة للأسف الشديد وإغداق الكرم على من لا يستحق في كثير من الأحيان. لكن مسألة الجدران العالية والانغلاق والتوجس تجاه الغريب تستحق التدقيق بدون حساسيات، وخصوصا ظاهرة التباعد بين الجيران والأقارب في نفس الحي بعد أن أصبحت ممارسات الفرز والاصطفاء والإقصاء تخضع لاعتبارات طارئة وطاردة للتعايش والانسجام بين المواطنين أنفسهم، ناهيك عن عشرة ملايين وافد استقدموا إلى البلد بطرق عشوائية لا تشجع على الانسجام المتبادل. كتعليق أخير، أعتقد أن ملاحظات الكاتبة الأمريكية تستحق منا النقاش على نطاق واسع، ومن رحمة الله أن يعرف الإنسان قدر نفسه قبل الدخول في جدال من الآخرين.