سعادة رئيس تحرير جريدة الجزيرة - وفقه الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: من العادات التي كانت معروفة عند العرب في الجاهلية قبل الإسلام: (الوقف) ومثال ذلك ما كانوا يوقفونه على الكعبة المشرفة وغيرها؛ إلاّ أنّ الإسلام لما أتى وأنارت به أرجاء المعمورة قد طوّر مفهوم الوقف، ونقله من مفهوم الفخر والخيلاء كما هو حال العرب قبل الإسلام إلى مفهوم: التقرّب إلى الله عزَّ وجلَّ. وقد اختلف العلماء حول مسألة: من أول من أوقف في الإسلام؟ وليس هذا مجال بحثه، لكن الذي علينا فهمه أنّ الإقبال الشديد من الصحابة - رضي الله عنهم - على الوقف لا بد أنّ ذلك سبقه وقف للنبي صلى الله عليه وسلم وحثّ عليه؛ فلذا بادر من بادر من الصحابة على الوقف، وقد تكلّم الفقهاء في معنى الوقف؛ فعرّفه الحنفية بأنه: «حبس العين على حكم ملك الله تعالى، وصرف منفعتها على من أحب»، وعند المالكية بأنه: «إعطاء منفعة شيء مدة وجوده لازماً بقاؤه في ملك معطيه ولو تقديراً»، وعرّفه الشافعية بأنه: «حبس مالٍ يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه بقطع التصرف في رقبته على مصرف مباحٍ موجود»، لكن التعريف الدقيق الأشد اختصاراً ما عرّفه الحنابلة بأنه: «تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة». وبعد هذه التعاريف المتنوّعة تعيّن على كل ذي لب حصيف جامع بين الفقه وتطبيقاته وبعد النظر وعصرنته؛ أن يدرك أشد الإدراك أن الوقف لا ينحصر على مجال دون غيره؛ بل هو واسع يتحمل كل شيء ما توفّرت فيه الشروط وانتفت عنه الموانع، ولهذا الفقهاء لما يعدِّدوا أمثلة على الوقف يقولون بعد ذلك: «ونحوها» إشارة منهم إلى أن الأمثلة لا تنحصر في شكل أو جهة معيّنة، وقد ذكر العثيمين - رحمه الله - في كتابه الماتع «الشرح الممتع»: أنه في الوقت الحاضر يصحُّ وقف السيارات، والأقلام التي لا تستهلك». وقد أعجبني ما كتبه الأستاذ سلمان بن محمد العُمري عن: «ثقافة الوقف الغائبة» في صحيفة الجزيرة العدد 14708 الصادر يوم الجمعة 22-2-1434ه، وعلمتُ - فيما بعد - أن للأستاذ سلمان بحثاً حول هذا الموضوع بعنوان: «ثقافة الوقف في المجتمع السعودي بين التقليد ومتطلّبات العصر: رؤية من منظور اجتماعي شرعي»، وهو بحث منشور من تقديم معالي الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، وقد حرصتُ على اقتناء البحث والاطلاع عليه، وقد تحدّث الباحث فيه عن ثقافة الوقف في المجتمع السعودي، وقد تعرّض للمشكلات التي تواجه الأوقاف، وخلص بعد ذلك لتوصيات ونتائج. وأقول: إن الحاجة ملحّة؛ لتطبيق ما ذكره الباحث وغيره من دراسات وتوصيات، بل لا أبالغ القول: إنه ينبغي لكل من أراد أن يوقف شيئاً أن يطلع على هذا الكتاب؛ لأنه - حتماً - سيفتح له آفاقاً واسعة؛ ففي السابق كانت ثقافة الوقف محدودة والتوعية به قليلة - إن لم تكن نادرة -، لكن مع هذه الكتابات والرؤى وغيرها ممن كتب في هذا المجال من العلماء تعيّن تطبيقها والإرشاد بأهميتها، واستغلال وسائل الإعلام المتنوّعة، ومواقع التواصل الاجتماعي؛ لبث هذه النظريات الإيجابية، بل في كثير من الأحيان تكون الحاجة ملحّة في نوع من أنواع الوقف أكثر مما كان يتوقعه الواقف. نعم هناك جهل في إدارة الأوقاف وعدم فقههم بالأوليات والحاجات، كما أشار لذلك الأستاذ سلمان في كتابه: إذن الحاجة تكمن في دراسة الأوقاف دراسة معاصرة وحضارية معتمدة في ذلك على عمق في الفقه والفهم، فكثير من الأوقاف مهملة ومجهولة، وبعضها يسير في طريق تقليدي، والأولى أن يسير في طريق آخر؛ لأنه الأمثل والأحوج، وبعض إيرادات الأوقاف كثير وتدر مبالغ طائلة؛ لكن - للأسف الشديد - مردودها العلمي قليل مقارنة بالواردات، فماذا لو طُوّرت الأوقاف، وشُكلت لجان جادة - وأقول جادة - تتابع مثل هذه الأوقاف؛ لتطويرها لتعميم نفعها، وبين أيدينا وأمام نواظرنا مثال للوقف الإيجابي، وهو من أبرز الأوقاف في مملكتنا الحبيبة وهو وقف الملك عبد العزيز للحرمين الشريفين، وهو أكبر مشروع استثماري، فهو مثال حي للاهتمام بالوقف، ولا بد أن يبرز ليكون مثالاً لبقية الأوقاف. وأقف بعد ذلك على نماذج ذكرها الدكتور عكرمة صبري في كتابه: «الوقف الإسلامي بين النظرية والتطبيق»؛ إذ سردَ نماذج من المستشفيات الموقوفة في التاريخ الإسلامي، ومنها: مستشفى ابن طولون في مصر سنة 259ه، والمستشفى العضدي في بغداد سنة 366ه، ومستشفى نور الدين زنكي في دمشق سنة 549ه، وغيرها كثير. وكثيراً ما كنتُ في السابق عندما أُقلبُ كتب الفقه، وأقرأ في المسائل الفقهية، يدور في فلك أفكاري أشياء وأشياء، ومنها: ماذا لو قام العلماء الأفاضل والسادة الجهابذ بإخراج كتاب في الفقه جامع بين الأصول والقواعد وبين التطبيق المعاصر، لكان هذا أدعى لفهم المسائل من قِبل القارئ لها، والمحتاج لفهمها؛ خاصة مع تقدم الزمن واندثار كثير من الأمثلة التطبيقية السابقة. د. أحمد بن سليمان بن صالح الخضير - أستاذ الشريعة والدراسات الإسلامية المساعد في جامعة القصيم