تظل الحاجة إلى الوقف في أيامنا هذه ماسة ، وأكثر إلحاحاً من ما مضى بالنظر إلى تضاؤل دوره في المجتمعات الإسلامية المعاصرة ومنها المجتمع السعودي واقتصاره على أوجه محدودة ، بخلاف ما كان عليه الوقف في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، وصحابته رضوان الله عليهم من بعده الذي شمل غالبية احتياجات المجتمع المسلم ، هذا ما ناقشه ، وبحثه الزميل الأستاذ سلمان بن محمد العُمري في مؤلفه الجديد الذي حمل عنوان : ( ثقافة الوقف في المجتمع السعودي بين التقليد ومتطلبات العصر رؤية من منظور اجتماعي شرعي ) . دعوة إلى إحياء الوقف وقد قدم لتلك الدراسة معالي وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد الشيخ رئيس المجلس الأعلى للأوقاف الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ الذي أكد أن الثمار التي جنتها الأمة الإسلامية من الأوقاف في العصور الماضية كبيرة مما يعد من محاسن هذه السنة الشريفة ، وتدفع إلى إنعاشها وتطويرها والعناية بها ، وكان للملك عبد العزيز طيب الله ثراه العناية التامة بالأوقاف، فاعتنى ببناء المساجد وشؤونها، والدروس العلمية فيها بصفة عامة، وبالحرمين الشريفين وشؤونهما بصفة خاصة ، فأمر بإنشاء إدارات للأوقاف في كلٍّ من مكةالمكرمة والمدينة المنورة وجُدة، وسار أبناؤه الملوك والأمراء يتبعون أثره في أعمال الخير، وتابعوا الاهتمام بالأوقاف ورعايتها وتنظيمها ، وأُنشئت وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، كما أُنشئت لها الفروع في كل مناطق المملكة، وتوج عقب ذلك إنشاء هيئة عامة للأوقاف، وكان اهتمام الوزارة ظاهرًا بكل ما يتعلق بالأوقاف حيث وضعت لذلك الخطط المهمة، كما نظّمت العديد من الندوات والمؤتمرات العلمية والبرامج المتنوعة، وأصدرت القرارات المنظمة للأوقاف في المملكة. ووصف معالي الوزير الشيخ صالح آل الشيخ الكتاب بأنه متميزاً ونافعاً بإذن الله في بابه ، وقال : اطلعت على كتاب الأخ الأستاذ سلمان بن محمد العُمري(ثقافة الوقف في المجتمع السعودي بين التقليد ومتطلبات العصر» فوجدته كتابًا نافعًا في بابه، فيه رؤية من منظور اجتماعي شرعي، وفيه دعوة إلى إحياء الوقف والعناية به، كما أن فيه بيانًا في تنوع الواقفين في أعمال البر، فهو لبنة نافعة في الوقف ، فجزى الله مؤلفه خيرًا، وجعله خالصًّا لوجهه الكريم، إنه نعم المولى ونعم النصير . تطامن دور الوقف أما الأستاذ سلمان العُمري فقد استهل تقديمه للكتاب بالقول : أُقدمَ هذه الرؤية من خلال صفحات الكتاب ؛ نظراً لتضاؤل دور الوقف المعاصر على الرغم من اشتداد الحاجة إليه, فمما يؤسف له ويحزن عليه ما نشاهده ونعيشه من تطامن دور الوقف وتواضع إسهامه في إنجاز ما نرجوه من نهضةٍ وتقدمٍ وتنمية, على خلاف ما كان عليه في الماضي؛ فالوقف في تاريخنا الإسلامي والعربي دوره الكبير في النهضة العلمية والفكرية والخدمات الصحية والمعيشية في عصور طويلة للأمة, تلك النهضة التي لم تحظَ بها حضارةٌ في تلك العصور, وإذا فتشتَ عن تفسيرٍ لها, فلن تجد تفسيراً صحيحاً سوى عمليات الوقف على كافة النشاطات الفكرية والعلمية والصحية, وبخاصةٍ إذا عرفنا أنَّه لم يكن هناك وزارة للتعليم, فالتعليم كان بتمويلٍ من الأوقاف. وقال : إننا بحاجة ماسة اليوم ؛ لأن تقوم الأوقاف بدورها, وأن تساهم مساهمةً فاعلة في التنمية وفق رؤية شرعية منطقية غير تقليدية, يمكن لها أن تمدَّ عمليات الوقف بالمزيد من القوة والفاعلية, فجوانب التطوير والتجديد في العمليات الوقفية متنوعة ومتعددة، منها ما يرجع إلى الأموال الموقوفة, وما يمكن أن يندرج تحتها من مفردات تحتل أهمية كبيرة في واقعنا المعاصر, ومنها ما يرجع للصيغ الاستثمارية والتمويلية لعملية الوقف, ومنها ما يرجع إلى المؤسسات القائمة المشرفة على عمليات الوقف سواء تمثلت في الجهات الواقفة, أم تمثلت في الجهات المديرة المشرفة. الوقف مصدر اقتصادي وأشار إلى دور الوقف في تاريخ الإسلام صور ، وأثره في دعم التنمية والعمل الخيري، وتحقيق نهضة وتقدم المجتمع المسلم، فقال : إن التاريخ الإسلامي يؤكد لنا أنَّ الأوقاف قد شملت جميع مناحي الحياة, وساهمت في خدمة الإنسان في مختلف مجالات التنمية قديماً وحديثاً, وقد أثبتتِ التجربة التاريخية الدور الكبير والعطاء المتميز للوقف كمصدر اقتصادي؛ لتنمية المجتمعات الإسلامية, وقاعدة صلبة من قواعد بنائه, ودعم إمكانياته البشرية والمادية. وأكد سعادته أن النتائج العظيمة والثمار الطيبة التي تحققت للأمة الإسلامية من الأوقاف في عصور ماضية لجديرةٌ بأن تدفعنا لأن ننظر لهذه السُنة نظرة عصرية، تمنح الأوقاف فاعلية ودوراً في دعم مسيرة التنمية ولاسيما في القطاعات التي تتطلب التعاون مع الدولة، مثل: التعليم والصحة، والبطالة وغيرها ..وهذه النظرة يجب ألا تكون بعيدة عن الأنشطة الاستثمارية المشروعة التي يمكن من خلالها تنمية الأوقاف وبالتالي زيادة إسهاماتها في تحقيق التكافل ومضاعفة عدد المستفيدين من ريعها، وكذلك التعريف بثواب الوقف والإنفاق في الإسلام، وتبسيط إجراءات الوقف والتعريف بها على أوسع نطاق، كذلك عرض الضمانات التي تؤكد للواقف أن أموال الوقف تذهب لمستحقيها، فالشفافية والثقة يشكلان معاً الأرض الخصبة التي يمكن أن تزدهر وتحيا فيها سنة الوقف في هذا العصر. وطرح المؤلف في صفحات الكتاب وهذه الدراسة البحثية ، ثقافةً استراتيجيةً جديدةً؛ لتحويل الأوقاف إلى مؤسسات تنموية مانحة تخدم المتبرع بالوقف, والمستفيد منه؛ وليكون الوقف أكثر إنتاجاً وفاعليةً في المجتمع؛ كما قيل : (حتى تحسن اختيار الحاضر فكِّر بما تريده في المستقبل) ، وهدف إلى توسيع مفهوم الوقف لدى عامة الناس, وتغيير ثقافتهم وتصوراتهم عن الوقف؛ لكيلا ينحصر في بعض الأوجه التقليدية وبيان ما قدمه الوقف قديماً, وما يمكن أن يقدمه مستقبلاً في كافة مجالات الحياة الاجتماعية للمسلمين. وفي نهاية الكتاب قدم المؤلف الأستاذ سلمان العُمري مجموعة من الرؤى والتوصيات والاقتراحات حول الوقف تصدرها اعتبار الوقف قطاعاً اقتصادياً ثالثاً موازياً للقطاعين العام والخاص ، والاعتراف بالمشروعات الوقفية باعتبارها مرفقاً خدمياً، بكل ما يترتب على هذا الاعتراف من حماية الدولة لأعيان الأوقاف وأصولها، ومراقبة صرف غلالها. تغير ثقافة الناس وطالب أن يكون للإعلام أثرٌ في تغيير ثقافة الناس تجاه الوقف؛ فالإعلام شريك استراتيجي في تنمية وإدارة الوقف؛ ففي عصر الإعلام والاتصال أصبح من الأهمية بمكان استغلال كافة قنوات الاتصال والإعلام؛ للتعريف بالوقف واستثماراته, وهذه الشراكة تنبني على وضع خطط وبرامج مشتركة بين الإعلام وإدارات الأوقاف الحكومية والأهلية؛ لإبراز الأعمال الوقفية, وتوفير المعلومات اللازمة عنها, واستغلال الإعلام كذلك لتوعية الجمهور بدور الوقف ووجوب تنوعه في مجالات التنمية عامة وعلى رأسها: الصحة والتعليم. وشدد على أهمية أن تأخذ المرأة دورها في عملية التنمية؛ لأنها السبيل الوحيد لتحسين أوضاعها المعيشية, ومن ضمن ذلك: إدارة أوقافها أو أوقاف ذويها؛ حتى لا تستغل أوقافها, أو تتعرض للسرقة. وقال : إنه لا مانع من الاستفادة من التجارب الحديثة عند الأمم الأخرى في مجال استثمار الوقف وتنميته والاستفادة منه بشكلٍ أمثل؛ مما يعود نفعه أكثر على الواقف والمستفيد من الوقف ، كما أن يجب أن يكون لإدارات الأوقاف الحكومية والأهلية دورٌ كبيرٌ ملموسٌ على الأرض في توعية الواقفين أو المتبرعين بالوقف على الأمور المهمة التي يحتاجها أبناء المجتمع السعودي, وبيان الأولويات بينها, فالأهم يُقدم على المهم, والمصلحة العامة تقدم على المصلحة الخاصة ، وقال : إن بعض المؤسسات الخيرية قد اقتصرت في إدارة أوقافها على بعض المشايخ الشرعيين, مع إهمال مشاركة أهل الخبرة والاختصاص من الاقتصاديين وعلماء النفس والاجتماع, فهؤلاء يستفاد منهم في إدارة الأوقاف واستثمارها استثماراً صحيحاً, وصرفها حسب الأولويات واحتياج المجتمع. وأشار العُمري إلى أن الكثير من التوصيات التي تخرج بها المؤتمرات، والندوات، والملتقيات، لا تجد طريقاً للتنفيذ على أرض الواقع،وقال : لذا لابد من رؤية شاملة تعتمد العلم في التشجيع على الوقف لأبواب البر والإحسان التي تمثل حاجة ضرورية للناس، وحماية أصول الأوقاف من العبث، والتعدي، والإهدار، واستثمارها لزيادة غلتها، ومضاعفة أعداد المستفيدين منها، وسرعة الفصل في النزاعات عليها، وبدون هذه المنهجية العلمية الواقعية تبقى أي توصيات، وأية جهود قاصرة عن تحقيق الهدف المنشود في إحياء هذه السنة العظيمة. أوقاف مشتركة واقترح إنشاء شركات متخصصة في إدارة الأوقاف: كحلٍّ جذري لمشكلة إدارة الأوقاف والتي يفكر الكثيرون في إقامتها قبل مماتهم، ويكون هناك عقد بين الواقف والشركة؛ بحيث تشترط مع الواقف خصم جزء من إيرادات الوقف لصالح الشركة يدخل ضمن إيراداتها ثم تقوم الشركة باستثمار هذه الإيرادات والمتحصلات لزيادة أرباح الشركة وتقوية مركزها المالي، وفي حال أفلست الشركة لا تدخل هذه الأوقاف في أملاك الشركة التي يتم تصفيتها أو بيعها، وإنما الذي يباع ويُصفَّى هو الشركة نفسها كما يمكن لشركة أخرى أن تشتريها وتقوم بإدارة هذه الأوقاف من جديد ، وإعفاء المشروعات الوقفية الاستثمارية من الالتزامات المالية العامة. وأوصى الكاتب باستقطاب أوقاف جديدة لما يجدُّ من احتياجات المجتمعات العربية والإسلامية ، والتعامل مع الأعيان الموقوفة على أساس من الخصوصية الشرعية التي لا تسمح بتملكها بالتقادم ، و إدارة المشروعات الوقفية على أسس تجارية تنموية خيرية، و طرح مشروعات وقفية متعددة تلبي حاجات المجتمعات, وتفتح المجال أمام الراغب في وقف ما يظن أنه الأنسب، و إلغاء أسلوب تحكير الوقف، واستبداله بصيغ استثمارية جديدة أكثر تنميةً لريعه. ودعا إلى تجميع الأوقاف الصغيرة المتماثلة أو المتقاربة في شروط الواقفين والتي أوشكت على الاندثار؛ لقلة غلتها، أو انعدام الحاجة إليها في كيانات وقفية أكبر يتم وقفها على ذمة الواقفين الأصليين ،وإقامة الأوقاف المشتركة عن طريق الصناديق النقدية الوقفية وقال الأستاذ سلمان العمري : وللمحافظة على الأوقاف من السرقة والاختلاس؛ يجب على الواقفين تجاه نظَّار الوقف مراعاة الآتي:حسن اختيار ناظر الوقف وأهليته؛ فاختيار الناظر يرتبط ارتباطاً وثيقاً بدوام الوقف والانتفاع به, وإنَّ سوء اختيار الناظر له علاقة كبيرة بضياع الأوقاف, والأسلوب القديم المعتمد على نظارة الذرية تسبَّبَ في ضياع كثيرٍ من أموال الوقف نتيجة تصرفاتٍ غير حكيمة أو أمينة من الناظر ، وضبط تصرفات النظَّار ومحاسبتهم قبل مباشرتهم العمل في الوقف وأثناء مباشرتهم, وبعد ذلك يكون لهم محاسبة عامة على تصرفاتهم بعد وقوعها. وأكد أهمية أن تحظى المؤسسات التعليمية بالعناية كما يحظى الوقف على الفقراء والمساكين والمساجد وجهات البر الأخرى, وليس للأوقاف الموجودة اليوم دورٌ ملموس في تعليم وتدريب وتأهيل أبناء المجتمع ، وأن تكون الخدمات الصحية والعلاجية من أولويات الاستثمارات الوقفية؛ ذلك أنَّ الخدمات الصحية تُعدُّ أغلى أنواع الخدمات تكلفة حيث يبلغ حجم الإنفاق العالمي على الخدمات الصحية أعلى المعدلات مقارنة بالخدمات الأخرى, فجهاز غسيل الفشل الكلوي تقدر تكلفته بأكثر من مليون ومائة ألف ريال سعودي. وأهاب بوزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد أن تجمع الوثائق التي تمتلكها في مكانٍ واحد؛ ليتسنى للباحثين الاطلاع عليها. مواجهة نوازل الحياة وناشد مؤلف الكتاب في ختام التوصيات جمهور الواقفين الذين يريدون ما عند الله – تعالى – من الأجر والمثوبة بثلاثة أمور: الوقف ثروة الأجيال القادمة في الخدمات الصحية والتعليم والتدريب والابتعاث، وأن الوقف سلاح استراتيجي في مواجهة نوازل الحياة, وكلما كان العمل أنفع وأصلح للأمة كان عند الله – عز وجل – أفضل ، وأن الوقف لا يقتصر على الأموات فقط, بل لابد للإنسان الميسور من إيجاد وقفٍ له في حياته يشرف عليه قبل مماته, وعلينا التشجيع على إيجاد وقفٍ في الحياة قبل الممات.