يرتدي قميصاً أبيض للمرة الثانية في حياته... نظر لجلبابه الملقى على الإسفلت... لا يتذكر ما كان لونه ؟وفستان طفلة مازال طرياً، ألوانه زاهية ( هكذا تخيل ).. لا يعرف كيف كانت بدايته؟ ولا كيف وصل هنا؟ يحمل ذاكرة وهنة كجسمه النحيل. لم يحاول يوماً أن ينظر في مرآة المحل الذي خلفه حيث كان ينام كل ليلة، حين ينعم الشارع بالهدوء... يلقي بجسده على قطعة بالية. ينكمش ضاماً رجليه حتى تلتصق بقلبه الذي لا وجود له.. لا يشعر بشيء داخله سوى معدة تطلب الطعام... أي طعام حالته لا تعطيه حرية الاختيار، يستيقظ فجراً حين يسمع أصحاب الشقق في العمارات المحيطة وهم يلقون بقمامتهم في الصندوق المقابل، يتسلل. يلتقط ما تصل إليه يداه وبحركة اعتاد عليها يلقي في فمه ما كان طعاما دون أن يمر بقاياه على عينيه أو عقله حاسة التذوق مفقودة يشاركه ضيوف على أربع في منافسة شرسة. تحمل إحداهن شيئاً من لحم يتشح بلون رمادي.. تشتعل المعركة يخرج منها منتصراً سوى بعض خدوش على كفيه.. يجمع بعض ما تبقى في كيس صغير، يعود لمكانه يستسلم لنوم آخر حتى تناديه شمس الصباح، ومكنسة عامل البلدية، وحلوى يرى مثلها في النافذة المقابلة لا رفاهية لغسل وجه، ولا استحمام. ينفر منه الجميع لهيئته الرثة. عدا طفلة في الحي كانت تراقبه من نافذتها، تلقي إليه بما تستطيع أن تصل إليه من طعام. عتاد وجودها مع الأيام، برغم عمره الكبير إلا أنها كانت تعتبره طفلها المدلل. ..حين لا تملك طعاما كانت تلقي إليه بابتسامة لا يردها بمثلها لكن تلمع عينيه.. بمرور الوقت أصبح مكان عروستها. .. حاولت أسرتها إبعادها عنه لكن لا فائدة.. وكان الحل الوحيد استدعاء أصحاب القمصان المقلوبة.. صرخة طفلة تخترق الجموع المحتشدة، تحمل في يدها وردة.. تهديها له والدموع تغمرها أمسكها بطرف القميص الذي يداري كفه يقربها من وجهه.. ويلتهمها. - محمد يوسف