ومن منا لا يعرفهم؟ إنهم أبناء الفجر.. من يسكبون الصباح كحبات الندى فوق نوافذنا المغلقة بزجاج عازل، وستائر من عتمة. تعرفهم من ملامحهم الحادة المحاطة بتجاعيد كأنها نقش منحوت على حافة جبل. نظراتهم شاردة.. حائرة.. منهكة كطائر بعثرت الرياح عشه. وإن أردت أن تعرفهم أكثر اقترب منهم.. حاول أن تتحدث إليهم ستجدهم أبوابا مشرعة، وحكايات بلا عناوين، وأغصانا ليس لها ظلال. لهم روائح صادقة ليست كرائحة بخور القصور الفسيحة، ولا عطر المكاتب الفخمة، ولا حتى جلد السيارات الفارهة.. رائحة أنقى وأزكى لأنها مصنوعة بعناية الضيم وكدح الأيام. الفقراء هم أصدق الغرباء في هذه الحياة.. عابري سبيل يخنقهم الصخب الكئيب وتذيبهم في هذا الموج العاتي أمانيهم البسيطة كما يذيب الأسفلت أحذيتهم البالية. تجدهم يكنسون السجاد الأحمر بعناية فائقة ومنازلهم عارية.. ويلمعون زجاج النوافذ البلوري وعلى جدرانهم تغفو فتحات لا يسترها سوى قماش رث يلهو به الهواء كشراع مركب هرم لفظه اليم.. ويقدمون الوجبات المتزاحمة بألوان التخمة وبطون أطفالهم ملتهبة. ومع ذلك لا زالوا يضحكون ملء قلوبهم، ويقذفون وجه الحاجة بكرات من ثلج، ويطلقون قفشاتهم الساخرة على طاولات المساء قبل أن يعودوا محملين بأرغفة شبه ساخنة وترقب لغد مثقل.. أصحاب الروائح الزكية خفاف على هذه الأرض لا يشعر بهم أحد.. يعيشون لوحدهم، ويصرخون دون ضجيج، ويختنقون رويداَ رويداً كمنظر الغروب. حتى عندما تطوى صفحاتهم فإنها تظل بيضاء من غير سوء تسر الناظرين. كل هذا فقط لأنهم أصحاب رائحة زكية! [email protected]