يوجد تساؤل هام لدى قطاع عريض من السعوديين وهو لماذا كل هذا الاهتمام بالموازنة؟ لماذا تتوقف الأنفاس خلال لحظات الإعلان عن أرقام موازنة العام الجديد؟.. هل يستحق الأمر كل هذا العناء؟.. هل فعلاً موازنة العام الجديد -زادت أم نقصت- تمثل أمراً يستدعي كل هذا الاهتمام؟.. الإجابة هي نعم.. فالموازنة الجديدة تمثل حدثاً هاماً، وربما الأعلى أهمية على الإطلاق لأنها تحدد ملامح السياسة الاقتصادية للدولة في عام جديد قادم، يمكن أن يكون توسعياً أو تقشفياً، والموازنة العامة للدولة إذا كانت تحتل أهمية في الدول الأخرى، فإنها تحتل أهمية أكبر وأعلى في دول مجلس التعاون الخليجي عموماً والمملكة خصوصاً، لأن الإنفاق الحكومي يمثل العنصر المحوري في دفع وتحريك عجلة النمو الاقتصادي عموماً، ونمو الناتج المحلي على وجه الخصوص.. فحتى الدول التي يلعب القطاع الخاص دوراً فاعلاً فيها، فإن فاعليته ترتبط بالإنفاق الحكومي. لماذا الاهتمام بالموازنة الحكومية؟ يفترض خلال الأيام الحالية أن يصدر بيان وزارة المالية حول موازنة العام الجديد 2013م وميزانية العام المنصرف 2012م .. وكثير من الناس لا تدرك تماماً التفرقة بين المفهومين، فموازنة العام الجديد تعني الأرقام التقديرية أو المخططة لإيرادات ومصروفات العام المقبل2013م، في المقابل، فإن ميزانية العام المنصرف تقدم الإيرادات والمصروفات الفعلية للعام المنصرف 2012م، والسؤال الآن: هل الاهتمام بموازنة العام الجديد أم بميزانية العام المنصرف أم بالاثنين معاً؟. في اعتقادي تختلف اهتمامات الأطراف والأفراد حول هذا السؤال، فالبعض يهتم بالاثنين معاً، في حين إن البعض الآخر أو الأغلبية تهتم بموازنة العام الجديد، ونخص هنا الشركات والمؤسسات الحكومية التي تمثل بالنسبة لها موازنة العام الجديد أرقاماً هامة لأنها تحدد في الغالب مواقعها أو نسب الإنفاق عليها.. والكل هنا يهتم بالنظر في أرقام الإنفاق أكثر من اهتمامه بأرقام الإيرادات، لأنه حتى لو كانت الإيرادات المتوقعة قليلة أو منخفضة، فإن الدولة يمكن أن تخطط إنفاقاً مرتفعاً من خلال تقبل العجز بالموازنة. أي أن عنصر الإنفاق الحكومي يمثل اهتماماً محورياً داخل الموازنة، وحجم هذا الإنفاق يحدد في الغالب درجة التوسع المستهدف بالسوق المحلي، وهذا التوسع يمثل المؤشر الرئيس لحجم النمو المخطط للعام الجديد. الإنفاق الحكومي يقود النمو بالقطاع الخاص جدير بالذكر أن الإنفاق الحكومي لا يقود الناتج الحكومي فقط، ولكنه في الحقيقة يعتبر وقود قاطرة القطاع الخاص نفسه، وهناك علاقة طردية بين الإنفاق الحكومي وبين ناتج القطاع الخاص، فكلما ارتفع الإنفاق الحكومي، ارتفع معه ناتج القطاع الخاص، وأحد نقاط الضعف في القطاع الخاص بمعظم دول مجلس التعاون عدم قدرته على توليد ناتج بدون الاعتماد على الإنفاق الحكومي لذا، فإن النسبة الكبرى من ناتج القطاع الخاص تعتبر أحد مخرجات الإنفاق الحكومي نفسه لذلك، فإن رجال الأعمال بالقطاع الخاص يكونون أكثر ترقباً للموازنة من غيرهم، لأنها تحدد مستوى ودرجة انتعاش أنشطتهم بشكل أو بآخر. التباين بين تبويبات الموازنة الحكومية وتبويبات الناتج المحلي الإجمالي من الأمور الملفتة للنظر الفجوة بين تبويب الموازنة الحكومية وبين تبويبات الناتج المحلي الإجمالي.. فالإنفاق الحكومي داخل الموازنة الحكومية يقسم إلى (10) بنود رئيسية هي تنمية الموارد البشرية، النقل والاتصالات، تنمية الموارد الاقتصادية، الصحة والتنمية الاجتماعية، تنمية تجهيزات البنية الأساسية، الخدمات البلدية، الدفاع والأمن القومي، الإدارة العامة والمرافق والبنود العامة، مؤسسات الإقراض الحكومية المتخصصة، والإعانات، أي أن الدولة تتولى الإنفاق على هذه البنود العشرة. أما تبويب الناتج المحلي الإجمالي حسب القطاعات، فإنه يقسم إلى قطاعين، قطاع نفطي، وآخر غير نفطي، ويقسم القطاع غير النفطي إلى قطاع خاص، وآخر حكومي. وبشكل أو بآخر توجد علاقة بين الإنفاق الحكومي وبين مخرجات الناتج المحلي الإجمالي وتبويبات الناتج المحلي الإجمالي بشكلها المأخوذ به حالياً، فيها ظلم وإجحاف كبير للقطاع الحكومي، فحجم ناتج القطاع الحكومي بالأسعار الجارية في عام 2011م مثلاً لم يزد عن 355.9 مليار ريال، في حين أن حجم الإنفاق الحكومي الفعلي في هذا العام وصل إلى 804 مليارات ريال. والانفصال الذي نتحدث عنه هنا يكمن في التعامل مع القطاع النفطي على أنه قطاع غير حكومي، أو أنه قطاع ثالث (لا هو حكومي ولا هو خاص) رغم أنه قطاع حكومي أصيل وهو ما يعتبر أمراً يتطلب المراجعة لإعطاء الإنفاق الحكومي القدر الذي تستحقه. نمو القطاع الحكومي.. صمام أمان للاقتصاد الوطني بعد ثورات الربيع العربي حدث نوع من العودة للوراء في الأيدولوجيات الاقتصادية، فسيادة الخصخصة والدعوة لتقليص مهام وأعمال القطاع الحكومي والتي بدأت منذ بداية التسعينات بالعالم العربي، تعرضت لصدمات حادة مؤخراً، وأحييت من جديد الدعوة لدور رئيس للقطاع الحكومي لتحقيق العدالة الاجتماعية والحفاظ على تقديم خدمات مجانية للمواطنين، ليس على مستوى الدول العربية، ولكن على مستوى العالم ككل. لذلك، فإن معادلة المفاضلة بين القطاع الحكومي والقطاع الأهلي بدأت تميل في اتجاه القطاع الحكومي كصمام أمان للنمو والتنمية.. لذلك، فإن نمو القطاع الحكومي بات هدفاً من جديد. ويعتبر نمو القطاع الحكومي في كافة دول مجلس التعاون الآن أحد جوانب النجاح التي استقرت بها اقتصاداتها خلال فترة الركود الاقتصادي الأخير. فتجارب كثير من الدول التي أنفقت أموالاً طائلة على الخصخصة أصبح مآلها الآن العودة من جديد للدعم المباشر للخدمات الإنتاجية بالقطاع الحكومي. إلا أن ذلك لا يعني إهمال القطاع الأهلى الذي يعول عليه في الانطلاق والتنمية في معظم المجالات والأنشطة بعيداً عن إثقال كاهل الدولة بتفاصيل غير مناسبة.