في رحلتي الأخيرة إلى واشنطن كنتُ متجهاً إلى مقهى بجوار البيت الأبيض, وعند مروري ببوابة البيت رأيت الحراس يقذفون بشخص إلى الشارع، ويرمون بحقيبة أوراقه فتناثرت الأوراق, كان ذا خلقة مشوهة وتدل حركاته على روح أكثر تشويهاً، نهض الرجل ينفض الثلج عن معطفه بغطرسة ويلملم أوراقه بعجرفة لا نظير لها، ويتمتم بشتائم ولعنات لم أتبينها, شعرتُ أني قد رأيت صورته من قبل بيد أني فشلت في أن أتذكر من هو. تبعته فقصد ذات المقهى, جلست غير بعيد عنه, وبينما كنت أتأمله وأحاول التذكر، جاء النادل منادياً: مستر لوبي!,, مستر لوبي! فرفع الرجل يده فقال له: تليفون يا سيد لوبي. وفجأة لمعت في ذهني هويّته: لقد كان السيد لوبي صهيوني بلحمه وشحمه أمامي,, يا لها من فرصة رائعة, الله لو أفوز بحديث صحفي معه! سيكون سبقاً صحفياً جديراً بالعزيزة الجزيرة ستكون ضربة حظ عظيمة ستجعلني شهيراً، ومن كبار الصحفيين، وسأترك الطب وسنينه, وسرحت في خيالي الواسع تحيط بي ثلة من الحرس الخاص، لحمايتي من الموساد. رجع إلى مقعده فاتجهت إليه: ألست السيد اللوبي الصهيوني؟ قال من طرف خشمه: هل تعرفني؟ وهل يخفى القمر. بدت عليه الحيرة إذ كان يحاول التخفي, استدركتُ: في الحقيقة,, أنت مثل أكبر نجم في المجرّة لا يعرفه، ولا يثمّن قدره، إلا علماء الفلك. انتشى لمديحي وعرف أن سرَّه في بير، فسألني: هل أعرفك؟ قلتُ: الحقيقة,, لم أحظ بهذا الشرف بعد! كنتُ قد أعددتُ خطتي المحكمة، فأنا أعرف أنه صهيوني عريق لا يثق حتى بأبيه، كما لا تثق به حتى أمه, فأكملتُ: في الحقيقة,, أنا صحفي من جنوب أفريقيا الشقيقة، سابقاً, من أنصار الزعيم العظيم إيان سميث، وأعيش لاجئاً في أمريكا. فرح، وبدا الارتياح على ملامحه فدعاني إلى الجلوس معه. يا فرحتي! قلتُ له وأنا أُهم بالجلوس: بالنسبة إلى ما شاهدته أمام البواب,,, قاطعني: ششش! وتلفت بحذر، ثم سحبني بحذر إلى طاولة في أقصى المقهى, وبينما كنت في ذهولي: أخرج من جيبه قلماً صغيراً وأدار غطاءه فلمع لونان أحمر وأخضر فأداره في أرجاء المكان فتوهج الأخضر, فقال: لا عليك، هذا جهاز للبحث عن أجهزة التنصت المخفية، ثم أخرج سلسلة مفاتيح ووضع حلقتها أمام عينه وجال ببصره في أرجاء المكان وقال: وهذه أيضاً للبحث عن الكاميرات المخبأة، فهؤلاء رجال السي آي إي يظنون أنهم أذكياء,, لكن على مين! دغدغتُ غروره: في الحقيقة,, على الكل إلا السيد لوبي، يا سيد الرجال، يا معلم يا كبير. ضحك وأصدر صوتاً يشبه الشخير على الطريق الاسكندرانية تعلمها أثناء طفولته في الإسكندرية. استعدتُ رباطة جأشي فعاودت سؤالي: في الحقيقة,, إنه منظر غريب ذلك الذي رأيته أمام بوابة البيت الأبيض! من يصدق أن اللوبي الصهيوني يعامل بهذه الخشونة؟ قال بقرف: بلا لوبي,, بلا قرف! هل ستفعل مثل العرب الذين ينسبون لي قدرات خارقة؟ لقد خلقني العرب,. أستغفر الله! يالك من غبي! في الحقيقة,. أقصد أن اسمي كان وكالة، ولكنهم منحوني اسمي الجديد وشخصيتي,, ونسبوا إليَّ قدراتي الخفية. يعني ليس لك وجود؟ ومع من تتحدث؟ بالطبع لي وجود ولكنك رأيت ما حدث, في كل البلاد جماعات ضغط مختلفة وأنا أمثل إحداهن، مثل الجماعة العربية المسماة بمنظمة العرب الأمريكيين, صحيح إننا أقوى من غيرنا، وأكثر تنظيماً وطبعاً حيلةً وذكاءً ولكن العرب صنعوا من الحبة قبة، فأنا في الواقع حبة وما تقرأه في صحفهم وما تسمعه منهم هو القبة, وهذا في الواقع أمر يسعدنا جميعاً. أنت وهم؟ نحن، وهم، وغيرنا. غيركم؟ كيف؟ نحن نفرح بأن يصفنا عدوّنا بأننا ذوو قوة لا متناهية رغم كثرتهم العددية، وثروتهم الاقتصادية، وموقعهم الاستراتيجي، فهذا يشعرهم دائماً بضالتهم ويجعلهم يخشون منا في كل قرنة, ويرضيهم لأن الضعيف الجاهل يفرح بأن يخترع ما يبرر ضعفه خارج ذاته, أما غيرنا، أي الأمريكان فيفرحون بذلك، ويقولون للعرب أنتم تعرفون كيف نومنا اللوبي الصهيوني اللعين تنويماً مغناطيسياً فجأة فأصبحنا مسلوبي الإرادة، يتحكم اللوبي بأقوى دولة في العالم، ويسيطر على إرادة 250 مليون أمريكي, إنها لعبة تريح الجميع، وأجمل ما فيها ان من يدفع ثمنها هو من اخترعها وصدّقها. - يعني لا تتحكمون في القرار الأمريكي,, في الحقيقة؟ - ألن تتخلى عن الهبل؟ كيف ترضى أعظم قوة على وجه الأرض أن نتحكم بها؟ إنك تذكرني بكاتب سعودي راحل. - الله يرحمه السيد لوبي لا يعرف الرحمة بالطبع . - لقد كتب ذات مرة ان السبب كان احتراق مزارع السيد ترومان عام 1948. - مزارع؟ يبدو أنه، في الحقيقة، موضوع شيِّق,. - شيق وعبيط ، يقول إن اللوبي الصهيوني أنقذ السيد ترومان من الإفلاس، ولذا اعترفت أمريكا بإسرائيل بعد خمس دقائق من إعلانها! - أليس ذلك حقيقة؟ - أي حقيقة؟! هل أمريكا استراحة لأبي السيد ترومان؟! أو إقطاعية لجده؟! أمريكا يا صحفي يا محترم دولة مؤسسات ودستور ونظام، والهوامش التي يتحرك فيها الرؤساء محدودة مهما اختلفوا, وسياساتها يتم التخطيط لها في بيوت لا لون لها, ولو فكر رئيس أن يخرج عن الخط المرسوم,, توقف عن الحديث فجأة، ونظر إليَّ شزراً، فقد كنتُ فاغراً فاي لدرجة أن حنكي التصق بصدري,, وأكمل: - مصيبة إيان سميث هو أنت وأمثالك الذين لا تفقهون شيئاً في الدهاء السياسي,. - أنا لستُ صهيونياً يا سيد لوبي,, الحقيقة! - هذه مصيبتكم,, عنصرية من غير صهيونية لا تصح, أنظر إلينا, لقد نفوا عنا العنصرية بقرار أممي,, بينما نعلن في كل مكان أننا شعب فوق مستوى البشر. - في الحقيقة,, دع لي همومي الجنوب أفريقية يا سيد لوبي,, هل تتكرم وتكمل؟ علّني أستفيد. - شوف يا سيدي! في سنة 1956 أصدر أيزنهاور إنذاره بأن تنسحب إسرائيل من سيناء وإلا,,! أين كان اللوبي الصهيوني ساعتها؟ أرجو ألا يقول أحد الأغبياء العرب إن اللوبي هو الذي ضغط على أيزنهاور ليصدر قراره,, ها ها,, عا عا,, وانطلق في ضحكة منكرة، ولم أملك إلا أن اضحك، فمن المؤكد أن أحد العباقرة العرب سيقول ذلك إذا لم يكن قد قاله فعلاً, ولم أُرد أن يسيطر عليه المرح فنخرج عن موضوعنا، فقلتُ منتهزاً أنه توقف عن الضحك ليتنفس: - ولكن إنذار بولجانين,. - إنذار بولجانين كان موجهاً لبريطانيا وفرنسا فما دخلنا نحن؟ تخيل رضيعاً ضاقت به أمه ذرعاً فتبنته امرأة أخرى ورعته، فربَّته وأطعمته وكسته، من سيطيع؟ الأم الضعيفة، أو المربية القوية! - وهل هذا وقت حزازير يا زلمة؟ - شو؟ بدك تحكي معي فلسطيني بخلع نيعك ها! هذا وقت الانصراف، ولكن أقول لك كلاماً أخيراً,, نحن وأمريكا ذوو مصالح مشتركة نخدمها وتخدمنا, ونعرف مدى حاجتها لنا، لذا نتدلع عليها وعلى أبوها, هل تذكر عندما قال نتنياهو لأمريكا نحن لسنا إحدى جمهوريات الموز فتزحلقت أمريكا بالقشرة,, هاها,, عاعا,,! لم أضحك فأردف: - ونعرف أنهم قد يستغنون عنا يوماً ولذا فنحن محتاطون, هل تعرف أن 90% من عمليات التجسس داخل أمريكا تقوم بها إسرائيل. - تتجسسون على أمريكا؟ - نعم,, وهل نسيت بولارد الذي لم أفلح باعتباره اللوبي الصهيوني في الإفراج عنه من السجون الأمريكية؟ والآن ها هي الأيام تبين لنا صدق شكوكنا, هل تعرف أن دولة عربية صغيرة تأوي 70 ألف جندي أمريكي؟ وأين ذهبنا نحن,, هه؟ ولكننا سنلاعبهم وسنستغل ذلك لأننا أذكياء، لا لأننا مسيطرون على القرار الأمريكي,, وهذا الأمر فوق إدراك العرب, نحن لا نمنح ثقتنا حتى لأقرب الأصدقاء,, اتفضل وريني عرض أكتافك من غير مطرود,, ورايا شغل! - في الحقيقة,, أشكرك على منحي جزءاً من وقتك الثمين يا سيد لوبي! - مع ألف مصيبة! ولا تنسَ أن تنشر ما دار بيننا في جريدة الجزيرة , بوغِتُّ وبُهِتُّ: - وكيف عرفت؟ - وهل تظنني أهبل! اولاً، إيان سميث مات من زمان، ولو كنتَ من أنصاره لكان عمرك 80 سنة، ثانياً، كان هو رئيس روديسيا زيمباوي حالياً وليس جنوب افريقيا، فعرفتُ أنك أهبل, وعرفت أنك عربي لأنك قلت جمهورية جنوب أفريقيا الشقيقة، وهذه صفة لا تذكر إلا عند العربان، فكلكم دول شقيقة، ولا نرى إلا الشقاق والطقاق, وفي الحقيقة عرفتُ أنك سعودي لأنك ذكرت شبه الجملة في الحقيقة تسع مرات بدون مناسبة, إني أستمع الى إذاعتكم وتلفزيونكم وما رأيت قط مواطناً يتحدث دون أن تسرسب في الحقيقة من فمه كل دقيقة وسبع ثوانٍ في المتوسط. - ولن يهمُّك أن أنشر ما دار بيننا؟ - اذهب وانشره في أي مكان,, لن يصدقك أحد! أليس أشعب أحد أجدادكم؟ - وما دخل أشعب في الموضوع؟ - ألم يضق ذرعاً بأتباعه الطفيليين ذات يوم فقال لهم كاذباً إن ثمة وليمة عرس في ذاك المكان فذهبوا جميعاً، فما لبث إلا أن صدق كذبته فتبعهم, فهمت وإلا لا؟! تظاهرت بالفهم فأومأت برأسي موافقاً، وفي الحقيقة لم أفهم! هل فهمتم أنتم؟؟. فاكس: 4782781 [email protected]