الأسهم الأوروبية تغلق على تراجع    أمير تبوك: نقلة حضارية تشهدها المنطقة من خلال مشاريع رؤية 2030    الفالح: المستثمرون الأجانب يتوافدون إلى «نيوم»    برئاسة ولي العهد.. مجلس الوزراء يقرّ الميزانية العامة للدولة للعام المالي 2025م    السعودية وروسيا والعراق يناقشون الحفاظ على استقرار سوق البترول    مغادرة الطائرة الإغاثية ال24 إلى بيروت    التعاون والخالدية.. «صراع صدارة»    الملك يتلقى دعوة أمير الكويت لحضور القمة الخليجية    الهلال يتعادل إيجابياً مع السد ويتأهل لثمن نهائي "نخبة آسيا"    في دوري يلو .. تعادل نيوم والباطن سلبياً    خادم الحرمين الشريفين يدعو إلى إقامة صلاة الاستسقاء    «التعليم»: 7 % من الطلاب حققوا أداء عالياً في الاختبارات الوطنية    أربعة آلاف مستفيد من حملة «شريط الأمل»    «فقرة الساحر» تجمع الأصدقاء بينهم أسماء جلال    7 مفاتيح لعافيتك موجودة في فيتامين D.. استغلها    أنشيلوتي: الإصابات تمثل فرصة لنصبح أفضل    الأسبوع المقبل.. أولى فترات الانقلاب الشتوي    «شتاء المدينة».. رحلات ميدانية وتجارب ثقافية    مشاعر فياضة لقاصدي البيت العتيق    الزلفي في مواجهة أبها.. وأحد يلتقي العين.. والبكيرية أمام العربي    مبدعون.. مبتكرون    ملتقى الميزانية.. الدروس المستفادة للمواطن والمسؤول !    هنآ رئيس الأوروغواي الشرقية.. خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    بايدن: إسرائيل ولبنان وافقتا على اتفاق وقف النار    كيف تتعاملين مع مخاوف طفلك من المدرسة؟    حدث تاريخي للمرة الأولى في المملكة…. جدة تستضيف مزاد الدوري الهندي للكريكيت    قمة مجلس التعاون ال45 بالكويت.. تأكيد لوحدة الصَّف والكلمة    7 آلاف مجزرة إسرائيلية بحق العائلات في غزة    الدفاع المدني: استمرار هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    كثفوا توعية المواطن بمميزاته وفرصه    شركة ترفض تعيين موظفين بسبب أبراجهم الفلكية    «هاتف» للتخلص من إدمان مواقع التواصل    حوادث الطائرات    حروب عالمية وأخرى أشد فتكاً    معاطف من حُب    الدكتور عصام خوقير.. العبارة الساخرة والنقد الممتع    جذوة من نار    لا فاز الأهلي أنتشي..!    الرياض الجميلة الصديقة    هؤلاء هم المرجفون    المملكة وتعزيز أمنها البحري    اكتشاف علاج جديد للسمنة    السعودية رائدة فصل التوائم عالمياً    خادم الحرمين الشريفين يدعو إلى إقامة صلاة الاستسقاء الخميس المقبل    مناقشة معوقات مشروع الصرف الصحي وخطر الأودية في صبيا    حملة على الباعة المخالفين بالدمام    «السلمان» يستقبل قائد العمليات المشتركة بدولة الإمارات    أهمية الدور المناط بالمحافظين في نقل الصورة التي يشعر بها المواطن    المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة يناقش تحديات إعادة ترميم الأعضاء وتغطية الجروح    مركز صحي سهل تنومة يُقيم فعالية "الأسبوع الخليجي للسكري"    "سلمان للإغاثة" يوقع مذكرة تفاهم مع مؤسسة الأمير محمد بن فهد للتنمية الإنسانية    جمعية لأجلهم تعقد مؤتمراً صحفياً لتسليط الضوء على فعاليات الملتقى السنوي السادس لأسر الأشخاص ذوي الإعاقة    حقوق المرأة في المملكة تؤكدها الشريعة الإسلامية ويحفظها النظام    استمرار انخفاض درجات الحرارة في 4 مناطق    الكرامة الوطنية.. استراتيجيات الرد على الإساءات    محمد بن راشد الخثلان ورسالته الأخيرة    زاروا المسجد النبوي ووصلوا إلى مكة المكرمة.. ضيوف برنامج خادم الحرمين يشكرون القيادة    نوافذ للحياة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رداً على رد محمد ماجد الملاذي في صدد روجيه غارودي . منطق يؤدي الى هدر العمر في إحصاء "المتآمرين والمخدوعين"
نشر في الحياة يوم 11 - 05 - 1998

في رده على مقالتي في صدد روجيه غارودي، أجاز لنفسه السيد محمد ماجد الملاذي في صفحة "أفكار" في 22 نيسان/ ابريل 1998 أو بالأحرى سوّلت له نفسه، بعد ان استولى عليها اهتياج أقرب الى الغضب والاحتجاج، ان يرمي الاتهامات جزافاً وعشوائياً. فلم يتوان الملاذي عن التعريض والوشاية الصريحين بعبارات تدور كلها على التخوين والتأثيم والتجريم والتآمر.
وفي المحصلة، يبقى عليّ الرد عملاً بمقتضيات مناقشة حرة يصعب القول بأنها تتمتع أو تخضع لقواعد مشتركة من شأنها ان تجمع أصحاب الآراء المختلفة داخل حقل من النظر والتعبير النقديين، أي من دون الهرولة المحمومة والمسعورة الى أجوبة وإدانات تصدر في صورة غريزية. والحق انه لولا اعتقادي بأن قلة الحول والحيلة وتخبط وضعف السياسات والمجتمعات العربية هي ما يسمح بشيوع وانتشار الاجوبة الجاهزة والمريحة، على فظاظتها وغلظتها وسوء عواقبها وصنيعها، لدى الكثيرين في العالم العربي لولا اعتقادي هذا، لما أضعت وقتي في الرد على اهتياجات وزجليات السيد الملاذي، بل لاكتفيت بإسدائه النصيحة ان يضع أمامه علبة أقراص أو حبوب مهدئة للأعصاب كلما شرع في قراءة مقالة تتناول تناولاً نقدياً آراء بشر يحسب الملاذي انهم ليسوا من طينة البشر وينزلهم منزلة المعبود الوثني.
ولما كان السيد الملاذي قد سمح لنفسه ان يستخدم صيغة المخاطب في رده على مقالتي، أي انه يرفع الكلفة لا بسبب وقوع الألفة، بل لاعتبارات قائمة على التسلط والرغبة البوليسية في الاستجواب والمحاكمة ذات الطابع الاتهامي والتفتيشي نسبة الى محاكم التفتيش حاسباً نفسه الناطق الوحيد والأخير باسم الأمة والقائم على ضميرها من دون ان يقدم لنا التفويض الصريح بحاكميته هذه، لمّا كان الأمر على هذه الحال، فإنني سأرد عليه في صياة المخاطب.
اعلم، يا أخ العرب، بأنني وجدت لدى العلامة الجاحظ دعاء ينطبق على الحالة التي وضعت نفسه فيها. وإليك الدعاء "جنّبك الله الشبهة، وعصمك من الحيرة، وجعل بينك وبين المعرفة نسباً، وبين الصدق سبباً، وحبّب اليك التثبت، وزين في عينك الانصاف، وأذاقك حلاوة التقوى، وأشعر قلبك عز الحق، وأودع صدرك برد اليقين، وطرد عنك ذلّ اليأس، وعرّفك ما في الباطل من الذلة، وما في الجهل من القلة".
تسأل، يا أخ العرب، بنبرة اتهامية تهدف الى التشهير "لماذا ينصّب الشامي نفسه مدعياً يهودياً على غارودي؟" وتستطرد قائلاً بأن اليهود أنفسهم عجزوا عن كتابة مثل هذا الادعاء، وبأنهم "لو تقدموا بمثله الى القضاء الفرنسي لضمنوا الحكم على غارودي ربما بالاعدام". على الشق الأول من عبارتك التي تفوح منها رائحة العنصرية ومشتقاتها، أقول لك: "بخ، بخ، أما الشق الثاني فهو ينم عن جهلك بأن الإعدام غير معمول به في فرنسا حتى اشعار آخر، نتمنى ان لا يأتي محمولاً الى السلطة على أكتاف أمثالك. وعلى قولك بأنني أوردت في مقالتي ما لم يخطر حتى على بال أعتى المتعصبين للصهيونية، وبأنني حملت رسالة وتحاول "تطبيع العقول العربية مع الافتراءات اليهودية" وبأنها كانت "في واقع الأمر أقرب الى ان تكون رسالة تصلنا عن طريقك طريقي أنا من اللوبي اليهودي، جامعة كل ما يريدون تبليغنا به بوضوح وصراحة"، على قولك هذا أجيب: "زه زه. أي، بعبارة شائعة في لغتنا العامية: عفارم يا شاطر" وبرافو عليك. لقد حاولت، يا أخ العرب، أن أجد قواماً لردك المتهافت، فرأيت ان أساسه ونواته قائمان على تصوير وتمثيل الصراع العربي - الاسرائيلي في صورة النزاع القبلي والعنصري والعرقي. أي ان الصراع هذا، ما يزال في مخيلة وسلوكات أمثالك ما دون السياسة بكثير. ولأنني أحبذ التثبت والتحقق قبل اطلاق النتائج والخلاصات فإنني أحصيت في مقالتك المفردات المحورية، فوجدت انك استخدمت صفة الصهيونية مرتين فقط، بينما استخدمت صفة اليهودية الجامعة المانعة، وكيفما اتفق، عشر مرات. ثم وجدت ان بيت القصيد، قائم كله في قولك بأن "غارودي يعترف - كما ورد في مقالة السيد الشامي - بأنه قد تحدث بشأن اليهود أقل بكثير مما كان يجب ان يقوله". ولا أعلم كيف زينت لك نفسك ان ترى اعترافاً في تصريح السيد غارودي بأن فوريسون "نعتني بأنني جبان، ووصفني المراجعون بأنني متملق، وذلك لأنني لم أدن اليهودية!! ولكن قل لي، لا فض فوك يا أخ الغرب، ما الذي كان يجب على غارودي ان يقوله وقصر عنه كثيراً، ان لم يكن بحسب تصوراتك وعبارتك، إدانة اليهودية جملة وتفصيلاً، أي عرقاً وديانة وجنساً ولوناً. ومعنى كلامك هذا أن السيد غارودي ما يزال يعاني من اغفاءة واحدة حالت بينه وبين الدخول في الصحوة الكبرى، تلك التي تدعو صراحة الى الإدانة وربما القتل على الهوية والنسب والولادة. ومن لا يفعل ذلك، يحفظك الله، سيكون في عداد المتآمرين على الأمة، أو اذا تكرمت بتخفيف الحكم، في عداد المخدوعين بأكاذيب وافتراءات اللوبي اليهودي.
لقد أثقلت على نفسك كثيراً، يا أخ العرب، اذ لو أردت ان تكون منسجماً مع منطقك هذا، فإنك ستقضي حياتك في احصاء المتآمرين والمخدوعين، وقد لا تكفي حياة واحدة لوضع لائحة بهؤلاء اذ أنها قائمة في طول التاريخ العربي - الاسلامي وعرضه منذ الدعوة وحتى أيامنا هذه. سيكون عليك، مثلاً، ان ترتاب، في أقل تقدير، في وطنية مرشد الجمهورية الاسلامية الايرانية السيد علي خامنئي بسبب قوله، لدى استقباله روجيه غارودي، بأن المسلمين لا يحملون أي ضغينة لليهود، لكنهم يعارضون الصهيونية بسبب "جرائمها المخزية". وسوف يزداد ارتيابك هذا عندما يضيف السيد خامنئي في تصريحه المنقول على التلفزيون "الحياة" في 22 نيسان/ ابريل 1998، أي يوم صدور مقالتك يا أخ العرب: "لو لم تكن أميركا دولة متغطرسة ولو لم يكن الصهاينة يقترفون مثل هذه الجرائم المخزية لما اتخذنا مثل هذه المواقف ضدهم. إن نضال الشعب الايراني ضد اميركا والصهاينة لا ينطلق من أي هوى عنصري أو ديني... ليست لدينا أي ضغينة أو هواجس تجاه اليهود".
ويسعك كذلك، يا أخ العرب، ان ترتاب في سلوك الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، لأنه كان يحرص على زيارة حاخام الطائفة اليهودية في مصر في كل مناسبة دينية يهودية، فيما يواصل من جهة أخرى استعداداته للحرب مع الكيان الصهيوني، ذلك ان عبدالناصر كان يميز بين المسألتين والشأنين، وهذا ما ستحسبه أنت تناقضاً صارخاً، أليس كذلك. ويسعك ان تذهب أبعد من ذلك، فترمي الشبهة على الشيخ محمد رشيد رضا، الأب الروحي لحركة الاخوان المسلمين، لأنه كتب غير مرة في مجلته "المنار" ومنذ صدورها عام 1898، للتشهير بالتعصب الأوروبي ضد اليهود خصوصاً مع اندلاع قضية الضابط ألفرد دريفوس، ولامتداح الدولة العلية العثمانية لأنها تحفظ كرامة سائر الجماعات والديانات القائمة في كنف الامبراطورية. ويسعك ان ترمي الشبهة على الدولة العثمانية نفسها وعلى مسلمي بلدان المغرب لأنهم استقبلوا اليهود الهاربين من محاكم التفتيش في اسبانيا بعد سقوط الاندلس. ولماذا لا تكمل طريقك فترمي الشبهة على مفهوم "الذمية" الذي يقيم أهل الكتاب على معتقداتهم في ظل الاسلام. أي حيث نجد قصوراً بل عجزاً تاريخياً، تحديداً في الحقبة الحديثة والمعاصرة والحالية، عن تحقيق اندماج وطني لسائر عناصر الأمة، تجد أنت، يا أخ العرب، أقل بكثير مما كان يجب" ان يقال ويصنع. وحيث نجد غارودي ممعناً في الالتباس والابهام والمناورة والتشكيك، لأسباب تخصه، تجد أنت اقتراباً محموداً من "الجذبة" الكبرى تلك التي تحصل لسالك طريق التصوف الموغل في حلقات الذكر والأوراد وصولاً الى الذهول عن نفسه وعن دنياه، ويظهر لي، يا أخ العرب، أنك أقرب الى فوريسون وأمثاله منك الى غارودي، فهذا الأخير حرص في المحكمة، والى حد معين في كتابه، على تمييز موقفه عن مواقف زبائن اليمين المتطرف والعنصري، كما حرص على التمييز بين الديانة اليهودية وبين الصهيونية كعقيدة سياسية ايديولوجية قومية. ولا أجد مثل هذا التمييز في موقفك أنت، بل أرى انك تستخدم صفة الصهيونية على قلة هذا الاستخدام بالمقارنة مع الصفة اليهودية العرقية، كما لو أنها مرادف لليهودية. وهذا بالضبط ما سعى اليه الصهاينة، أي انتزاع شرعية التمثيل اليهودي في كل مكان، وقد نجحوا الى حد ما في ذلك، بفضل جهود ومواقف أمثالك، جزئياً بالطبع.
وتسأل، يا أخ العرب، "أليس من المعيب ان نناقش طريقة المفكر في تقصيه الحقائق؟"، وأجيبك بأن "لا ليس في الأمر أي عيب. فنحن، كما تعلم في زمن يجوز فيه النظر النقدي في أعمال ومواقف أفلاطون وأرسطو وأفلوطين وهيغل وكافكا وماركس ونيتشه وفرويد وابن رشد وابن سيناء والغزالي وابن عربي وفي الكتب المقدسة. فلماذا يكون معيباً النظر في طريقة غارودي، علماً بأن هذا النظر اقتصر على فصول محدودة من كتاب محدد، ولم يتناول سائر أعمال غارودي، ولم يكن موضوع المحاكمة، على أي حال يدور على مؤلفات وأعمال هذا الأخير. بل أرى معيباً، يا أخ العرب، ان تدعونا الى الوقوف والاحتشاد صاغرين بين يدي وفي حضرة السيد غارودي أو غيره، كما يقف المريد في حضرة شيخ الطريقة، "أي كالميت بين يدي غاسله" بحسب وصفة شائعة في بعض الطرق الصوفية.
وتسألني، يا أخ العرب، وعلى طريقة المحقق العسكري، ان كنت أعني حقاً ان قيمة الحق العربي والحق الفلسطيني "لن ينتقص منها تعاطفنا مع اليهود"؟ كذا. من أين أتيت، عصمك الله من التزوير والتلاعب بالعبارة الأخيرة المتحدثة عن "تعاطفنا مع اليهود". لقد كتبت في مقالتي بأن "الاقرار بالتعاطف مع الضحايا حق". لو كان في الأمر خلط ناتج عن السهو لغضضت الطرف. إلا أنك، على ما يبدو من مقالتك كلها، تخلط بين التعريف العريقي والعنصري والاتني، أي "الطبيعي" والفيزيائي اذا شئت، وبين تعريف تاريخي متبدل الضحايا. وهذا الخلط كارثة حقيقية، فكرياً واخلاقياً. ماذا دهاك وأذهلك، يا أخ العرب، كي تعتقد بأن كلمة الضحايا هي صفة تلازم مجموعة بشرية كما الظل وكما يلازم اللون الأسود بشرة الزنجي الافريقي. ألم تسمع بأن المظلومين في ظرف تاريخي معين يسعهم ان ينقلبوا الى ظالمين في ظرف آخر، وهذا الانقلاب هو مدار التاريخ كله. ألم تسمع أخبار العباسيين يثورون على الظلم والأثرة الامويين ليتحولوا لاحقاً الى عصبة تظلم الآخرين. ألم تصلك أخبار انهيار الحكومات الشيوعية التي ثار أصحابها في البداية ضد طغيان القياصرة والاقطاعيين، ثم انشأوا استبداداً من طراز جديد. وها هم ضحايا الأمس الشيوعي يرخون العنان لتسلط المافيات. ألم تصل الى أسماعك أخبار الأهوال الجزائرية حيث تحول ضحايا الاستعمار الفرنسي في الأمس القريب الى ملك عضوض وهلم جّرا. باختصار، ألم تقرأ أخبار ابن خلدون عن دورة العصبيات وتسلطها على بعضها البعض، أم أنك ستجد في "مقدمة" مؤرخنا العربي تعويذة من تعاويذ اللوبي اليهودي.
والحق، يا أخ العرب، ان ما حملني على انتقاد غارودي هو ان مبالغاته ومغالاته في موضوع المحرقة من شأنها ان تصبح في العالم العربي، مدار توظيفات عاطفية وانفصالية تعمي البصر والبصيرة، وتعطل عمل العقل والنظر التاريخي. وردك يؤكد لي حدسي هذا. بعبارة اخرى، ما أراه غير مقبول من غارودي هو انه وضع المحرقة في صلب المشروع الصهيوني لبناء الدولة العبرية، وقد احتذى ولو من موقع النقيض حذو الدعاة والمغالين في اللوبيات الصهيونية لتغطية السياسات الاسرائيلية. لنفترض، يا أخ العرب، انه حصلت في فرنسا، مناظرة حول موضوع المحرقة، كما طلب غارودي، وجاءت النتيجة اعترافاً بحصول المحرقة أو ما يقرب منها. سينبغي في هذه الحالة ان نقر بشرعية الدولة العبرية وبأن اغتصاب أراضي الفلسطينيين وطردهم وقتلهم هي امور بسيطة وثانوية، ما دام غارودي قد ربط ربطاً دعاوياً محكماً بين هذه الامور، وهي أمور تتوزع في الحقيقة، أي تاريخياً، على مدارات مختلفة. سيصبح اعلان بلفور الصادر عام 1917، أي قبل وصول النازيين الى السلطة بعقد ونصف، بلا دلالة، علماً بأن هذا الاعلان وجعله من قبل البريطانيين، في صورة غير قانونية، بنداً من بنود سياستها الانتدابية في فلسطين وتسهيلها للهجرة اليهودية الى فلسطين، ولو في حسابات غير متطابقة تماماً مع حسابات الصهاينة، علماً بأن هذا يتيح لنا ان نتعقل السياق التاريخي وتشابك المصالح والاستراتيجيات التي أفضت الى ولادة اسرائيل. وهذا التعقل ليس ترفاً نظرياً بل معرفة مناسبة من أجل مقاومة أكثر فعالية للمشروع الاستيطاني الصهيوني.
لقد أوغلت، يا أخ العرب، في المماحكة والزجل والسجال، وذلك في معظم نقاط مقالتك. وقد اصطنعت لنفسك معرفة وفيرة بأحوال السيد غارودي وسيرته الشخصية والفكرية، وهذا الأمر لم يكن موضوع مقالتي: "اذ من قال لك بأنني لا أستحسن بعض أفكاره في كتبه السابقة". قل لي أيها الخبير في معرفة السيرة الغاردوية، من أين أتيت بمعلوماتك القائلة بأن "غارودي قضى في سجون النازية ثلاث سنوات ونصف السنة ثم اعتنق الاسلام بعد ذلك وأصبح اسمه رجا؟"، مع ان الرجل بقي في الحزب الشيوعي الفرنسي حتى عام 1969، عام طرده من الحزب اثر جلسة علنية نقلت على التلفزيون الفرنسي، وهو لم يعتنق الاسلام الا في مطلع الثمانينات. يبدو لي، يا أخ العرب، ان مغالاتك في حب من تحسبه شيخ طريقة، جعلك أشبه بالمرء الذي كان يقول عنه المسلمون بأنه "لشدة معرفته بالصحابة كان يدعو بالثناء على عنترة". وأنت تعلم بأن عنترة بن شداد عاش ومات في الجاهلية ولم يدرك الاسلام ولا صحابة النبي. ويبدو لي ان المشكلة مع غارودي أهون من مشكلتنا معك ومن مشكلته هو أيضاً معك. ففي حال ما اسعفته المصادر الاسلامية، ورغب في الاستشهاد بقول الإمام علي: "يهلك فينا، أهل البيت، اثنان: محب غالٍ، وعدو قال" فإنه على الأرجح سيميل الى توبيخك في حال إصرارك على الاعجاب بالنموذج النازي في كراهية اليهود.
وأراك تماحك أيضاً حين تقول بأنك لم تجد في رسالة الأب بيار أي تحذير وتحفظ ضمنيين. افترض بأن صداقة طويلة جمعت بيننا ولو مع بعض الخلافات، ثم تعرضت أنت للمحاكمة بسبب موقف أو رأي سياسي. ثم أرسلت اليك رسالة تضامن أقول لك فيها بأنني أعرفك نزيهاً ومستعداً دائماً للاعتراف بالخطأ في حال ثبوته. اذا كتبت لك هذا ولم تفهم بأنني، مع صداقتي لك، أدعوك الى التراجع عن بعض الافكار والاعتراف ببعض الخطأ، فبئس هذه الصداقة. غير ان السيد غاردوي فهم الرسالة جيداً، ولذا قال بأنه لا يملك الكفاءة للبت في موضوع غرف الغاز، وبأن موقفه يختلف عن مواقف فوريسوف والمراجعين الى حد ان هؤلاء نعتوه بالجبن والتملق. ثم تتحدث عن البيان الصادر عام 1982 والذي وقعه غارودي والأب ميشال لولون وآخرون. وقد وصفت الأب لولون وهذا صحيح بأنه "من أبرز المناضلين ضد القهر في العالم، تميز بنضاله من أجل استقلال الجزائر، وهو الآن من أبرز حلفاء القضية الفلسطينية في أوروبا" ولم تسأل نفسك لحظة واحدة، لماذا لم يتضامن الأب لولون مع غارودي. فالوقائع تقول بأن غارودي عقد مؤتمراً صحافياً يوم 18 نيسان ابريل 1996 قال فيه بأنه يتمتع بتأييد ودعم الأب لولون والكاتب المعروف جان زيفلر والأب بيار. الا ان لولون وزيفلر سحبا بسرعة تأييدهما، وبقي الأب بيار الذي سعى الى الدفاع عن سمعة صديقه غارودي، وهذا موقف نبيل وشهم وهدفه، خلافاً لما تظن أنت، انما هو دفع التهمة الموجهة الى غارودي بأنه من المراجعين والنافين للمحرقة، وأنت تنفي صراحة حصول المحرقة. قد يكون بيني وبين غارودي، كما تقول، سنوات من التجارب والمعاناة، لكن بينك أنت وبينه قرون جرت فيها مياه كثيرة من رهافة العقل والنقد، وبقيت أنت تحسب التأييد والصداقة ضرباً من الولاء القائم على النعرة العصبية، وتحسب السياسة حرباً قبلية وعرقية، وتحسب الأمة رهطاً من المريدين المتحلقين حول شيخ الطريقة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.