تكلمنا في الموضوع السابق عن كتاب الغوريلا الخفي للعالم النفسي كريس شابري، وهو كتاب يناقش عدة مغالطات وأوهام نقع تحت تأثيرها لا شعورياً، ولا زلنا في الوهم الأول وهو «وهم الانتباه»، وهذه نظرية تقول إن المعلومات التي نأخذها بصرياً من العالم المحيط بنا أضعف بكثير مما نظن، وحتى لو أتانا دليل على ذلك حاولنا تبرير فشلنا في الانتباه. اسم الكتاب يأتي من تجربة طريفة، وهو مقطع لبعض الناس الذين يناولون بعضهم كرة، والمطلوب أن يركز المشاهد على أصحاب الملابس البيضاء ويعد مناولاتهم، وأثناء ذلك يأتي شخص في زي غوريلا ويمشي ببطء من يمين الشاشة إلى يسارها، ويقف في المنتصف ويضرب صدره ويكمل مشيه، والذي يحصل دائماً هو أن نصف الناس ينتبهون للغوريلا والنصف الآخر يغفل تماماً، وقد جربتها بنفسي على اثني عشر شخصاً أكثر من نصفهم غفل تماماً عن رؤية الغوريلا! ونكمل الموضوع، فلِيقوم الأستاذ بتوكيد نتيجة التجربة استعان بجهاز خاص وهي كاميرا تراقب حركة العين، ووجدا أن كلا القسمين (الذين انتبهوا للغوريلا والذين غفلوا) قد نظرت أعينهم للغوريلا لما لا يقل عن ثانية كاملة. يقول الكاتب إن هذه النظرية يمكنها تفسير أشياء كثيرة، مثل ارتطام سيارة بدراجة نارية، فمن أكثر الإجابات تكرراً على ألسنة السائقين عندما يضربون دراجات نارية هي عبارة «لقد ظهر لي فجأة!»، بينما أصحاب الدراجات عادة يقولون «لقد رأيته ينظر إلي لعدة ثوانٍ قبل الحادث!»، ولأول وهلة قد نظن أن أحدهما كاذب، لكن نظرية وهم الانتباه يمكنها تفسير ذلك، فالذي يقود سيارة ويصدم دراجة فالسبب على الأرجح أنه غفل عن شيء لم يتوقع رؤيته. ماذا يعني ذلك؟ إن الناس عندما يقودون سياراتهم في الشوارع فإنهم لا يتوقعون إلا رؤية سيارات أخرى، وبما أن الدراجات النارية أقل حول العالم من السيارات فإن هذا يجعلها عرضة للحوادث حتى وصاحب السيارة ينظر إليهم مباشرة، لأن العين تنظر لكن العقل قد عمي ولا يتوقع إلا السيارات، والحلول التي تُستخدم عادة لا تجدي نفعاً، فلوحات «انتبه للدراجات النارية» لا تجعل الشخص ينتبه إلا ثوانٍ معدودة بعدها يعود لعماه، و الملابس الزاهية العاكسة للضوء لن تنفع لأننا رأينا من التجربة أعلاه أنك يمكن أن تنظر لشيء بعينيك لعدة ثوانٍ ومع ذلك لا تبصره. هناك حلان لهذه المواقف، الأول أن يكون سائق السيارة قد ساق دراجة نارية من قبل. إذا كنت في موقف لا يدرك فيه أحد وجودك فإن هذا سيفتح عينيك لاحقاً عندما تسوق سيارة. الحل الثاني هو جعل الدراجات النارية أقل «اختفائية» مما هي عليه، وأفضل طريقة هي تصميمها بحيث تشابه السيارات في مظهرها، مثلاً: أن تكون الأنوار الأمامية أكبر حجماً وبينها مسافة كبيرة. هذه التجربة أيضاً تُظهر خطورة استخدام الهاتف أثناء القيادة، فقد أظهرت الدراسات أن من يقود وهو على الهاتف المتنقل يماثل في انتباهه سكراناً - أكرمكم الله - حيث العقل بطيء الاستجابة خاصة للعوامل المفاجئة. قد تقول «لكن أنا دائماً أستخدم الجوال ولم يحصل لي حادث!»، والسبب أن الشوارع عادة تسير بشكلٍ متوقع، ولكن عندما يحصل شيء مفاجئ فإن المتحدث أكثر عرضة بكثير للحادث، كأن - مثلاً - يظهر أمامك طفل يلاحق كرة أو قطة تجري أو سيارة تتوقف فجأة أمامك، ولا فرق إطلاقاً بين وضع الجوال على الأذن وبين استخدام سماعة البلوتوث. لإثبات هذا طلب الكاتب من مجموعات جديدة أن يشاهدوا المقطع وقسمهم لقسمين، أحدهما يشاهد وهو يتحدث على الجوال. لزيادة التأكيد فقد وَضَعَ علامة رقمية حمراء واضحة على الغوريلا، فما النتيجة؟ القسم الذين لم يهاتفوا انتبه أكثر من ثلثيهم للغوريلا، أما الذين كانوا على الجوال فقد غفلوا عنه بنسبة تزيد عن 90%! أرأيتم كيف يسلب الجوال الانتباه؟ قال سبحانه: {مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} (4) سورة الأحزاب. أما الكلام مع الراكب فلا يسلب التركيز كالجوال، وقد وضعوا ثلاثة أسباب لذلك، أولها أن الجوال يطلب تركيزاً أكثر لاستيعاب كلام المتكلم لأنه لا يوجد إلا صوته، بينما الراكب تراه وتسمعه، والثاني أن الراكب يرى الطريق وينبهك لو حصل شيء، والسبب الأخير هو العُرف، فإنك إذا حادثتَ شخصاً على الهاتف ثم أتت فترة صمتَّ فيها فسيظن أنك انتهيت من كلامك، بينما الراكب يعرف ظروفك فيما لو -مثلاً- سكتَّ لتُركِّز على اختناق مروري مفاجئ. إذاً، هذا وهم الانتباه، حفظنا الله وإياكم من مخاطره، فليس محصوراً في تجارب ماتعة على الإنترنت، بل يمكن أن يسلبك حياتك لو لم تنتبه له، حفظنا الله وإياكم.