في المقعد (النافذي) على الطائر الميمون في رحلة خارج الوطن قدم لي المضيف بعض الصحف وأثناء تصفحي للجريدة لأستثمر بعض الوقت وقعت عيني على خبر وفاة الشيخ عبدالله بن صالح الفالح الذي وافته المنية يوم 22-3-1433ه الموافق 14-2-2012م في مدينة عنيزة بمنطقة القصيم مسقط رأسه حيث دفن بها وصلي على الفقيد في جامع الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله، بعد أن غادر هذه الدنيا بصمت وعن عمر ناهز التسعين عاماً. وعندما عدت إلى الرياض قرأت عنه في المجلة الثقافية الأسبوعية التي تصدر كل يوم خميس عن صحيفة الجزيرة العدد 365 بتاريخ 8-4-1433ه الموافق 1-3-2012م وأبلغت والدي الشيخ محمد بن إبراهيم الهويش متعه الله بالصحة والعافية بخبر الوفاة حيث لم يكن يعلم بذلك، وأعطيته عدد المجلة الثقافية التي كتبت عنه، فتأثر لوفاته وترحم عليه ودعا له بالرحمة والمغفرة. نعم إنه قضاء الله ولا يحمد على مكروه سواه قال تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}، وقتها عادت بي الذكريات إلى الوراء وتذكرت أن الوالد كان يذكره ويتحدث عن هذه الشخصية النابغة الفذة بين فترة وأخرى كلما جاء الحديث عن دار التوحيد أو كلية الشريعة، وقلت في نفسي إنها فرصة لأتحدث مع الوالد عن حياة الشيخ عبدالله الفالح ودراسته، وتكون فرصة للمشاركة في مقالة تنشر عنه ولو كانت بسيرة لهذا جاءت المشاركة متأخرة بعض الشيء. واستجمعت قواي، وأخذت بعض الورق، وأمسكت قلمي وجلست بجانب الوالد وسألته في البداية وقلت: منذ متى وأنت تعرف الشيخ عبدالله الفالح رحمه الله؟ معرفتي بالشيخ عبدالله بدأ الوالد حديثه عن الشيخ قائلا: عرفت الشيخ عبدالله رحمه الله عندما انتظمت بدار التوحيد بالطائف في السنة الأولى، وكان حينها يدرس في السنة الثانية بكلية الشرعية بمكة، فقد التحق بدار التوحيد قبلنا بسنوات وهو من خريجي الدفعة الأولى لدار التوحيد حيث التحق منتصف الستينيات الهجرية من القرن الماضي، وكان يطلع إلى الطائف مع بعض الزملاء ويحضرون مناسبات النادي الأدبي والتي تقام ليلة الجمعة من كل أسبوع. ويضيف الوالد قائلا إن الملاحظ أن جميع طلاب دار التوحيد بعدما يتخرجون من الدار يظلون وفيين وبارين بمدرستهم ويتواصلون مع زملائهم بالدار كلما سنحت الفرصة ولو كانوا بأعمار متفاوتة. ومن هنا نشأت العلاقة بيني وبين الشيخ عبدالله الفالح وغيره من الزملاء الذين تخرجوا من الدار، مثل معالي الشيخ محمد بن إبراهيم بن جبير، والشيخ إبراهيم الحجي ومحمد الربيعة، وسعد أبو معطي، والشيخ صالح العلي الناصر، والشيخ عبدالله بن خميس، والشيخ عبدالعزيز المسند رحمهم الله، وإن لم يكونوا من نفس الدفعة وكذلك الشيخ صالح الحصين متعه الله بالصحة وغيرهم. كما أن أخي الشيخ عبدالعزيز بن إبراهيم الهويش رحمه الله قد تخرج من الدار في الدفعة الرابعة، ومن زملائه الشيخ سعيد الجندول. لو أراد لتكلم شعراً ويكمل الوالد حديثه عن الشيخ الفالح ويقول: كنت وقتها معجباً به كشخص يحمل خُلقاً عالياً من التواضع والانسجامية واحترام الآخرين وككاتب وشاعر من الطراز الأول. ورأيت في الشيخ عبدالله رحمه الله أنه من أنجب الطلاب الذين تخرجوا من الدار فقد كان متدفق المعرفة والمعلومة، ويحمل حصيلة علمية واسعة قبل دخوله الدار اكتسبها من المشايخ في عنيزة، وعلى رأسهم الشيخ عبدالله السعدي رحمه الله. ويستطرد الوالد حديثه الشيق عن الشيخ عبدالله الفالح وما تحمله الذكريات فيقول إنه كان يقول الشعر ارتجالاً وشعر قوي، ولو أراد لتكلم وأجابك شعراً شاعر على السليقة، قوة في الذاكرة، وسرعة في الحفظ المبدع لكل ما يقرأ، ومما أحفظه في الخصوص مقطوعة له قالها في مراقب كلية الشريعة في مكة آنذاك الأستاذ عبدالرحمن المانع ومساعده أبو الوجيه ويبدو أن لهم موقفاً معه بخصوص المواظبة على الدراسة. وقد أنشد لي هذه الأبيات في مناسبة أثناء زيارته لنا في دار التوحيد قال فيها: مرحاً لهذا المانعي الآلمعي المجتبى أخلاقه عطراً كأزهار البنفسجي في الربى وأبو الوجيه وزيره يهنيه ذاك المنصبا وإذا تبدى في العقال وقد تلفلف في العبى ألفيته كأمير قوم لا يزال مُقربى كانوا من المبنى في الماضي فأضحوا معربا يسمونه بالرائد وقد ضاع كثير من شعر الشيخ عبدالله، والذي أعتقد أنه يشكل ديواناً بسبب عدم اهتمامه، ولأنه يقول الشعر ارتجالاً، وعلى العموم فإن الشيخ عبدالله يعتبر من النوابغ سواء في سعة معلوماته أو ذكائه أو قدرته العلمية والأدبية والفكرية، ولو أتيح له من يتابع إنتاجه لظفر بالعلم والشعر والأدب بمحصول علمي وأدبي غزير ورفيع. ويضيف الوالد في حديثه عن هذه الشخصية فيقول: كان خلال دراسته متميزاً ومتفوقاً على زملائه، وان ضمن الدفعة الأولى التي تخرجت من دار التوحيد وكلية الشريعة، وكان زملاؤه يسمونه بالرائد، وكان رئيس دفعته عندما تخرجوا من كلية الشريعة بمكةالمكرمة. سألت الوالد وقلت كيف كانت دراسة الشيخ عبدالله، أقصد هل كان يذاكر بجد؟ قال ستستغرب فالملاحظ أنه رحمه الله لم يكن يحرص على المذاكرة كثيراً، ومع ذلك تفوق على زملائه، لأن لديه حصيلة علمية قبل دخوله الدار، وكان في حياته بسيطاً متواضعاً وقضى حياته لم يتزوج عاش حياته بعد تخرجه في مكة ويقضي بها الشتاء والربيع والجزء الباقي يقضيه في عنيزة مسقط رأسه في فصل الصيف. وعلى العموم فإن الشيخ عبدالله كان يعرض حبه واحترامه للآخرين من خلال الأخلاقيات التي يتمتع بها والعلم الغزير الذي يحمله. لقد كان راقياً في فكره وسامياً في تعامله إنساناً في نبله. حبه للقراءة ويؤكد الوالد إلى أنه كان حريصاً على قراءة وجمع وشراء الصحف والمجلات والدوريات والكتب الخارجية التي تصل إلى الطائفومكة من مصر ولبنان وسوريا في ذلك الوقت ويقتطع جزءا من مكافآته للحصول عليها. وقلّ أن تراه إلا وتجد في يده جريدة أو مجلة مما أكسبه ثقافة واسعة رحمه الله. ثم ذكرتُ الوالد وقلت له إنني كنت معك في حفل دار التوحيد في شهر محرم عام 1416ه بالطائف بمناسبة مرور 50 عاماً على تأسيسها وأذكر أنك ألقيت قصيدة بهذه المناسبة، وكذلك الشيخ عبدالله بن خميس، وكذلك كلمة للشيخ محمد بن جبير والشيخ عبدالعزيز المسند، وسماحة الوالد الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمهم الله جميعاً على شرف صاحب السمو الملكي الأمير سعود بن عبدالمحسن نائب أمير مكةالمكرمة في ذلك الوقت. ولم أر الشيخ عبدالله الفالح من ضمن المدعوين للحفل -فهل رأيته؟ قال للأسف لم يحضر ولم أره في هذه المناسبة حتى أنني لم أتواصل ولم أره منذ أن تخرجت من الداربالطائف ومن ثم كلية الشريعة بمكة وقد يكون هذا تقصير في حق زميلنا، وإن كنت أسأل عن أحواله بين فترة وأخرى وعرفت أنه استقر به المقام والعمل في مكة حيث وحسب علمي ومنذ تخرجه من كلية الشريعة لم يمارس إلا مهنة واحدة وهي أميناً عاماً لمكتبة مدرسة في مكة حتى تقاعد. عاش في عزلة ويختم والدي يحفظه الله حديثه عن الشيخ الفالح.. قائلاً هذا ما لدي عن الفقيد من معلومات وذكريات وما تختزن الذاكرة عنه. إنه الرجل الذي عاش في عزلة ورحل في صمت رحمه الله رحمة واسعة. ثم شكرته على هذه المعلومات القيمة والذكريات الهامة. وفي كتاب متوسط في حجمه يستحق القراءة فهو مليء بالمعلومات والذكريات صدر عن الشيخ محمد بن إبراهيم بن جبير بعد وفاته وأحتفظ به. يتحدث عن جوانب من سيرته الذاتية الشخصية كما رواها في مقابلة تلفزيونية وثائقية خاصة تقديم وحوار الدكتور عبدالرحمن الشبيلي -الطبعة الأولى - الرياض- شهر ذو الحجة 1422ه (شهر فبراير 2002م). سأله الدكتور الشبيلي عن دخولكم كلية الشريعة بمكة بعد تخرجكم من دار التوحيد؟ فأجاب معاليه: نعم تخرجت من دار التوحيد عام 1368ه ومن كلية الشريعة عام 1372ه حيث إنها افتتحت عام 1369ه. هل تذكرون معالي الشيخ محمد زملاء كلية الشريعة؟ قال أمامي الآن هذا الكتاب الجامع في ذلك الوقت. كتاب توثيقي عن كلية الشريعة وقد صدر بمناسبة مرور خمسين سنة على إنشائها. وزملاء تلك الفترة كما ترى الشيخ عبدالله الفالح، ومحمد بن جبير، وعبدالملك عبدالرحمن الملا، ومحمد خالد مصطفى المدني، وصالح الكشفي، وإبراهيم الحجي، وعبدالله عبدالرشيد عطار، وعبدالواحد طاشكندي، ومحمد عبدالعزيز الربيعة، وعبدالمجيد فلمبان، عبدالحميد خياط وعبدالله الشلاش العبدالله، ومحمد علي الواحد جنبي، ومحمد إبراهيم زاهر. سأله الدكتور الشبيلي عن زملائه في تلك الدفعة؟ لديه حصيلة علمية كبيرة: وقد تحدث الشيخ ابن جبير عن هؤلاء الزملاء. وقد اخترت فقط عن الشيخ عبدالله الفالح.. ما دام حديثنا عنه فقال معاليه: أولاً الشيخ عبدالله الفالح وهذا زميل في دار التوحيد. وكانت لي به علاقة طيبة في دار التوحيد وهذا شخص غريب الأطوار فمن الناحية العلمية برز، لديه حصيلة علمية كبيرة خاصة في علوم اللغة العربية والبلاغة والعلوم الدينية، والحديث، والتفسير، والفقه، والتوحيد جاء إلى دار التوحيد وهو كبير السن. وكان من طلبة الشيخ عبد الرحمن السعدي في عنيزة. وكان يتولى مكتبة عنيزة التي يشرف عليها الشيخ عبد الرحمن السعدي، تحصيله العلمية وكفاءته الفذة والملفتة للنظر في كل الفنون التي نحن ندرسها. الأول على دفعته ويضيف الشيخ ابن جبير قائلاً سألته ذات يوم وقلت له يا شيخ عبد الله. أنت الآن لسنا من مستواك ونحن نلهث وراءك ودروسنا يالله نقدر نستوعبها وأنت لا تذاكر ومع ذلك أراك مستوعبا كل الدروس. فقال لا تتعجب أنا قرأت الروض المربع وهو كتاب من كتب الفقه المعتمدة يتكون من جزءين قرأته مع الشيخ عبد الرحمن السعدي سبع مرات، نحن في دار التوحيد وكلية الشريعة لم نقرأه إلا مرة واحدة فأراد أن يضرب لي مثل، لأنه فعلاً قرأ كتباً كثيرة، وهو كذلك ذكي لكنه مبتلى بالوسواس، وكان معنا في دار التوحيد فيكمل ما ينجح إلا في الدور الثاني، ويمكن ترتيبه هو الآخر. وفي كلية الشريعة كذلك لكنه في آخر سنة شد حيله وصار ترتيبه في التخرج الأول على دفعته. كما ترى الشيخ عبد الله الفالح صديق لي، وكان مغرماً بقراءة الصحف المصرية، يحجزها عند وكيلها في الطائف شخص يقال له مصطفى الرصيني في برحة القزاز. حيث لا يوجد في الطائف في ذلك الوقت إلا ذلك الشخص الذي هو وكيل لمكتبة الثقافة في مكةالمكرمة. والشيخ عبد الله الفالح يحجز عنده مصروفه الجيبي في هذا، فإذا جئت إلى غرفته وإذا فيها ركام غير منظم من الصحف والمجلات، فأي داخل عنده يستلذ بالجلوس معه ومحادثته والجالس معه في الأفكار التي سمعها وقرأها ويناقشها. ثم سأله الدكتور عبد الرحمن الشبيلي فقال يا معالي الشيخ إلا على ذكر الزيارة والتواصل هل بينكم صلة مع عبد الله الفالح من بعد التخرج وإلا انقطعت الصلة؟ لم أتواصل معه فأجاب فضيلته: مع الأسف أنني لم أتصل به وكنت حريصاً على ذلك ولكن لم تتهيأ لي الفرصة، إنما أنا أسأل عنه وأتتبع أخباره، وكان في نيتي الحقيقية أني أزوره. قالوا لي إنه يأتي إلى عنيزة في وسط الصيف. وقد شاخ وضعف بصره، وانحنى ظهره، الحقيقة أني أفكر أن أزوره، عندما أتأكد من وجوده في عنيزة، لأن له حق علينا، وزميل دراسة وصديق، وأنا أحبه في الله، وكنت في فترة من الفترات أتولى شؤونه يعني لا يروح يقبض راتبه وكنت أذهب أنا وأقبضه له لا يهتم بأموره الدنيا ويتركها. انتهى حديث الشيخ ابن جبير عن الشيخ الفالح. اتجه للزهد أما عمي الشيخ عبد الله بن إبراهيم الهويش أخو الوالد. فقد قال لي عنه هذه المعلومة وإن كانت يسيرة فيقول أسمع عن هذه الشخصية النابغة الشيخ عبد الله الفالح.. من أخي الشيخ محمد الهويش ولم أقابله إلا مرة واحدة في حياتي. كانت قبل حوالي عشرين عاماً.. عندما كنت في زيارة لمكة وتحديداً في الحرم.. وقد عرفت أنه يصلي هناك ولكني لو رأيته لن أعرفه كان ذلك قبل صلاة العشاء بقليل يقول عمي بينما كنت في ساحة الحرم، وإذا باثنين من طلبة العلم يتحدثون ويقولون هذا هو الشيخ عبدالله الفالح لنذهب للسلام عليه. ثم رافقتهم وسلمنا عليه جميعاً وتحدثوا معه في موضوع معين، وقال لهم إن أصل المسألة كذا و(أصلها) وقال إن أصلها كذا وقام بتصحيحها.. ثم تقدمت وعرفته بنفسي وقلت له أنا فلان وأنا أخو الشيخين عبد العزيز الهويش رحمه الله ومحمد الهويش يحفظه الله، ورأيت فيه أنه اتجه إلى الزهد في دنياه. وترحم على الشيخ عبد العزيز وسأل عن الشيخ محمد. وطلب مني أن أنقل له تحياته وسلامه عليه. وترحم على زملائه الذين رحلوا ودعا للأحياء منهم بالصحة والعافية. ولم يفصل حديثنا إلا قرب إقامة صلاة العشاء.. فهمت منه أنه يريد أن يتقدم في الصف الأول لأداء الصلاة. وكنت أريد أن أمضي معه وقتاً أطول إلا أني أحسست أنه لا يريد الكلام أكثر ثم ودعته ودعوت له بالصحة والعافية. ختاماً هذا ما تسنى لي جمعه وكتابته عن هذه الشخصية النابغة والرائدة الفذة. أحر التعازي إلى أسرة الفالح وأقاربه وكل من أحبه. داعين الله أن يجعل قبره روضة من رياض الجنة وأن يجمعنا وإياه في دار كرامته، وأن يتغمده بشآبيب الرحمة إنه نعم المولى ونعم النصير. قال تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي}. الشركة السعودية للصناعات الأساسية (سابك) الرياض