قال ابن خلدون «الإنسان مدني بطبعه», وهذا يعني أن الناس - كل الناس - تحكمهم في هذه الحياة علاقات اجتماعية متنوعة, وأن المرء لا يستطيع - مهما كانت ظروفه وطبيعته وأحواله - أن يعيش بمعزل منفرداً عن الآخرين, وهذه العلاقات منظومة مشتركة يحكمها التأثر والتأثير، واجتماعية الإنسان اجتماعية فطرية, فهي سمة من سمات هذا المخلوق الكريم, قال تعالى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا لهذا كانت عقوبة «الحبس الانفرادي» من أشد العقوبات قمعا وألما وتأثيرا في النفس, وحدّا من الانطلاق والنشاط والسعي للبناء. من أبرز مظاهر العلاقات الاجتماعية بين الناس الصداقة, والمحبة, والمصالح, والنسب, والمصاهرة, والمواطنة, والزمالة, والمجاورة.. وغيرها. وهذه العلاقات منها ما «لا يمكن» الفكاك منه كالنسب والمصاهرة المنجبة والمواطنة, ومنها ما «يمكن» مهما كانت درجة صعوبته كبقية الأنواع السابقة. وفي العلاقات التي يمكن الافتكاك منها وخصوصا «المحبة» و»المصالح» شدد الناصحون الحكماء قديما وحديثا على التحذير من الانسياق وراء (المقفي) وهو الذي ولاّك ظهره ومضى, لأنه لا فائدة تُرجى منه, ولذلك قالوا في المثل (لا تطرد مقفي), أي لا تُضع وقتك في رجاء من ترك ساحة الرجاء, وطويت منه صفحة الفوائد. و»المقفي» في قانون المصالح ما هو إلا «جوادٌ خاسر» ومن ذا الذي يراهن على الجواد الخاسر! و»المقفي» ما هو إلا سراب لامع, وبرقٌ خُلّب, ليس في رجائه والجري وراءه إلا مضيعة الوقت, ولا يرجو مَنْ لا رجاء فيه إلا الأحمق قليل العقل، والتحذير من طرد «المقفي» اتفق عليه شعراء النبط قديما وحديثا, وفي المقابل أشاروا بالتمسك بنقيضه وهو «المقبل» المرجو. فبركات الشريف, يحذّر من «طرد المقفي» ويؤكد التحذير مرتين, وفي نفس الوقت يحث على العناية ب «المقبل», قال: واحذرك عن طرد المقفّي حذاريك عليك بالمقبل وخل من تعداك ومثله محمد العبدالله القاضي الذي وصف «طرد المقفي» بأنه (عذاله) أي مذمة, وأنه متعب, وحث على «المقبل» وطالب بالإقبال عليه والاهتمام به, قال: واصحا ترى طرد المقفّي عذاله يتعبك والمقبل عطه وجه وإقبال أما ابن سبيّل فيرى أن عشق «المقفي العايف» لا مصلحة فيه, وذكر أنه لا يأبه بالمعشوق «المقفي» حتى ولو كان جميلا مليحا, أما «المقبل» فهو (ينهض له شراع السفينة) أي يهتم به ويحتفي, قال: مانيب عشاقٍ على غير مصلوح يضحك لخلانٍ وهم عايفينه المقفي أقفي عنه لو كان مملوح والمقبل أنهض له شراع السفينهة أما عبدالله اللويحان فذكر أن من «يتبع المقفي» مآله إلى الخسران, وشبّهه ب (الذي بالقيظ يدفق صميله) أي يفرّغ قربته التي يشرب منها, قال: من يتبع المقفي مرده للافلاس مثل الذي بالقيظ يدفق صميله وقال في بيت آخر: الا يا تابع المقفين تتبعهم وهم مقفين نقاصة عقل يا اللي تتبع اللي معطيٍ قافي وفي قوله (تتبعهم وهم مقفين) قمة الاستغراب والاحتقار! ويرى عجلان العجلان أن اتباع المقفي واقتفاءه أمر معيب, قال: ما نيب من يتبع المقفي فمنقود انّي أقفاه علمت نفسي على الشيمات ما علموني أما سليمان بن هويدي فيرى أن عاقبة طرد المقفي هي الجنون, قال: والمثل معروف من خلاك خله طارد المقفين يقنع بالهبالي ويذكر عبدالله القعيمة أنه لا يهتم ب «المقفي» بينما يُقبل على «المقبل» ويزيد له الترحيب, قال: والمقفي أقفي عنه مانيب نشاد والمقبل أقبل له وأرحب زياده ويرى بدر بن سعيد أن طرد المقفي عيب, وأنه كطرد السراب, قال: طرد المقفي عيب عند الرياجيل مثل الذي يطرد سراب القوايل لا وارد عدٍّ ولا صادر امحيل يا تايه الخطوه ترقب وخايل لا تلتفت للي مضى واعدل الميل دور على غيري وتلقى الهوايل وقال علي القحطاني: لا تطرد المقفي ترى مالك اصلاح من يطرد المقفي مضيّع دليله وأكثر الشعراء من تشبيه «طرد المقفي» بمختلف الصور والتشبيهات السلبية, فمطلق بن عياش يراه مثل (خوّة اللاش) وهي مرافقة الرجل التافه, قال: أنا أقبل مع المقبل وأقفي عن المقفي ترى طارد المقفي مثل خوة اللاشي ويراه بعضهم نوعا من الإهانة, قال: لا طارد المقفي ولامدوّر الشور ركضٍ ورى المقفين مثل الإهانه ويرى بعضهم أن طارد المقفي مثل «الأطرش بالزفة» كما يقول المثل المصري, قال: ترى طارد المقفي يعوّد وهو خسران مثل جلسة الأطرش وسط حفلة الزفه وكلمة (حفلة) في البيت حَشْوٌ جلبته الضرورة. ويرى آخر أن «طرد المقفي» مثل سكب ماء القربة في رجاء مطر غيمة لاحت في السماء, قال: ترى طارد المقفي يعود بلا مصلوح مثل من طرد غيمه وقربته ساكبها وماجد الرتيق يرى أن «طارد المقفي» غشيم, أي جاهل متهوّر, قال: وادري انّه طارد المقفي غشيم والبلا قلبي خذيته واختفيت ويرى آخر أن «تابع المقفين» مثل من يستشير الحاسد, كلاهما خائب خاسر, وكلاهما يبحث عن الشيء في غير مصادره ومظانّه, فهما كمن يطلب من الطير حليبا, قال: ترى تابع المقفين ومشاور الحساد مثل من يدور من حليب القطا شربه و»المقفي» الذي أطال الشعراء في ذم الطرد وراءه ومتابعته وأطنبوا في ذلك, نجده في معظم مجالات الحياة, فكل مرتجى إما أن يكون من النوع «المقبل» أو من النوع «المقفي», لكن معظم الشعراء كانوا - حينما يشيرون إلى تجاربهم وخبراتهم الخاصة - يقصدون في تحذيراتهم نوعا واحدا من «المقفين» وهو (المحبوب), ومن يشغل نفسه برجاء محبوب لا يحبه ولا يهتم به ولا يأبه له, أو محبوب مشغول بحب غيره, فهو «طارد المقفي» الذي دندن الشعراء حوله وذموه.. وقال مبارك بن محيا: أقفى وقفايته مدري وشنهي عليه بيض الرعابيب من يعطي عليهن ضمان إن أقبلن سهّلن لك كلّ شيٍ تبيه وإن دبّرن طارد المقفي يشوف الهوان أما العاقل فهو الذي ينسحب عندما يرى رفيقه (مقفي), والجزاء من جنس العمل, والمثل يقول (من باعنا بالرخص بعناه ببلاش), وقديما قال راعي أشيقر عبدالرحيم التميمي: من باعنا بالهجر بعناه بالنيا ومن جذ حبلي ما وصلت رشاه الإقفا جزا الإقفا ولاخير في فتى يريد هوى من لا يريد هواه