لا أحد ينكر أهمية العاطفة لدى الإنسان، رجلاً كان أو امرأة، وإشباع العاطفة غريزة ولدت مع الإنسان شأنها شأن الغرائز الأخرى، وحدد الإسلام الضوابط المشروعة لإشباع الغرائز، وحرّم ما يؤدي إلى الفساد والإفساد، ولكن كيف يمكن الإشباع العاطفي؟! وهل هناك علاقة بين الحرمان العاطفي وما يقع من انحراف لدى بعض البنات والزوجات؟، وما حقيقة ما يردده البعض من أن الحرمان العاطفي داخل الأسرة في المجتمع من الأسباب الرئيسة في انحراف البنات والزوجات والبحث عنه من خلال مخالفات شرعية، وما نوعية العلاقات القائمة بين أفراد الأسرة الواحدة في المجتمع؟، وهل هذه العلاقة أسهمت في هذا الانحراف؟ وما دور أصحاب الفكر والرأي في مؤسسات المجتمع المختلفة في توعية وتثقيف الأسرة بمتطلباتها واحتياجاتها في المرحلة القادمة؟، وما حقيقة وواقع الأسرة الحالي، وكيف تساعد معرفة ذلك في إصلاح الأسرة وتطوير الأنظمة والبرامج المتعلقة بها بما يتلاءم مع المستجدات الاقتصادية والثقافية في هذه الفترة المتغيرة، وبما يسد ويشبع لها احتياجاتها المادية والعاطفية لأعضائها؟ تلك التساؤلات حملناها إلى اثنتين من المتخصصات في العلوم الشرعية والتربوية والنفسية.. فماذا قالوا؟! إشباع الرغبات وتؤكد الدكتورة مزنة بنت مزعل العيد أستاذ أصول الفقه المساعد وكيلة الشؤون التعليمية بكلية الآداب بجامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن أن الإسلام رفع مكانة المرأة وأولاها عناية لا تضاهيها عناية وأعلى من شأنها ومقامها وقضى لها من الحقوق ما يجب على الآخر أن يؤديها، فحين تعامل المرأة على أنها سلعة رخيصة ترمى كقطعة أثاث في المنزل دون السؤال عنها أو معرفة احتياجاتها وإشباع لرغباتها الإنسانية أو المادية فإنه والله أعظم البلاء، وهذا هو مفهوم الحرمان والجوع والجفاف والفراغ العاطفي والذي يعني الفجوة التي يشعر بها الفرد ذكرًا وأنثى عندما لا يجد من يفيض عليه حنانًا وعطفًا تجعله يحس بأهميته وقيمته في نفسه ومجتمعه فالعاطفة كلمة عظيمة أشبع الإسلام مفهومها واحتواها بقواعد أرساها وبينها في كتابه الكريم وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم ولقد ضرب الرسول الكريم أروع الأمثلة في تحقيق الإشباع العاطفي لزوجاته، فقد كان يقدر المرأة كزوجة مسؤولة ويوليها عناية فائقة فتجده يواسيها ويكفكف دموعها ويقدر مشاعرها يسمع كلامها وشكواها ويخفف أحزانها تقول عائشة رضي الله عنها: (كنت أشرب فأناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع في) ولقد كان يخرج معها ليلا (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان بالليل سار مع عائشة يتحدث)، كما كان يساعدها في أعباء المنزل وأعظم من ذلك كلّه حين يشهر ويعلن حبه لزوجته قال عن خديجة: إني رزقت حبها ولقد كان يقبل وهو صائم ويتطيب في جميع أحواله، كما أنه لم يضرب امرأة قط ولا أكثر من كونه يواسيها عند بكائها، كانت صفية رضي الله عنها في سفر وكان ذلك يومها فأبطأت في المسير فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تبكي وتقول: حملتني على بعير بطئ فجعل الرسول الكريم يمسح بيديه عينيها ويسكتها، كما أنه رخص في الكذب عليها للمصلحة، .كما قل يوم إلا وهو يطوف على نسائه فيدنو من أهله فيضع يده ويقبل كل امرأة من نسائه حتى يأتي على آخرهن فإن كان يومها قعد عندها، إن الأسرة اليوم عليها مسؤولية عظيمة تجاه الفتاة فإن إهمالها خطيئة، فهي بحاجة إلى الاحتواء وضخ المزيد من المشاعر والحب والعواطف وقطع الحواجز الجافة التي تكون سببًا في الالتهاء والانشغال المؤديين إلى الانحراف، وفي رأيي أن الحرمان العاطفي في حد ذاته لا يعد سببًا للانحراف إلا باجتماع غيره معه فإنه إن صادف ضعفًا في الوازع الديني وقلة خوف منلله العظيم وعدم إدراك للعواقب فسوف يؤدي حتمًا للرذائل عياذًا بالله فإن أمهاتنا قد نشأن على التصحر العاطفي ومع ذلك كن أكثر وعيًا وأشد حرصًا على أخلاقهن، لذا يجب بداية تنشئة الفتاة على الاستقامة والخلق الكريم وتوعيتها بالفاسد والصحيح وختامًا بضخ مزيدًا من العواطف والقضاء على مساحة التصحر العاطفي. الاستقرار العاطفي أما الأستاذة جوهرة بنت صالح الصقر المحاضرة في قسم التربية- تخصص علم نفس فقالت: يعد جانب الاستقرار العاطفي من أهم الجوانب الرئيسة في حياة الإنسان ذكورًا وإناث، أزواجًا وأولاداً، فهو مؤشر قوي يكشف مستوى قيام الأسرة بمسؤولياتها المتعددة سواء أكانت اجتماعية أو اقتصادية أو تربوية. والاستقرار العاطفي هو أمن نفسي واجتماعي ينعكس بشكل مباشر على أمن واستقرار المجتمع بشكل عام، فقد ركزت ثقافة المجتمع السعودي الدينية والاجتماعية على ضرورة الإشباع العاطفي بطريقة مقبولة تحت ثقافة معينة وهو الزواج وتكوين أسرة، فالأسرة في نظر الإسلام وكما اعترف نظام الحكم السعودي هي المسئولة شرعًا وقانونًا عن رعاية أولادها (ذكورًا وإناثاً) وإشباع حاجاتهم الأساسية والثانوية. وتؤدي الأسرة دورًا مهمًا في إشباع حاجات الأولاد الاقتصادية، كما تلعب دورًا كبيرًا في إشباع حاجات الشعور بالأمان العاطفي، بمعنى أن يشعر الأولاد سواء (ذكورًا أو إناثاً) بأنهم محبوبون كأفراد ومرغوب فيهم لذاتهم وأنهم موضع حب وإعزاز الآخرين، وتظهر هذه الحاجة مبكرة في نشأتها، ولذا فإن الذي يقوم بإشباعها خير قيام هما الوالدان، وهذا الأمان شرط أساسي لاستقرار البنات اجتماعياً، فالمناخ الأسري الصحي هو الذي يسوده الحب والمودة والعطف والتقدير والاحترام والتعاون والتضحية، بينما تشعر البنت بالحرمان وعدم الأمان العاطفي عندما يضطرب المناخ الأسرى وتشعر البنت بالخوف والقلق والصراع فينتج منه حرمان عاطفي للإناث وعدم شعورهن بالتبعية والانتماء للأسرة واحترام الذات وتحقيق المركز الاجتماعي، لهذا فإن إغفال الوالدين في تلبية مطالب هذه الجانب من الإشباع العاطفي لأبنائهم من الذكور والإناث قد يؤدي إلى انحرافهم وإتباع وسائل غير مشروعة من أجل إشباعه (حيث ثبت من الدراسات العديدة- أشهرها دراسة بولبي عن العلاقة بين الحرمان من حنان الأم والسرقة- مدى تكرار التصرفات غير المتكيفة في مؤسسات رعاية الأطفال المحرومين عاطفياً، كما أن الممارسة العملية تظهر أن معظم الجانحين والمتشردين يعانون من أحد أشكال الحرمان الدائم أو المحدد بفترة زمنية من حياتهم، وأن هذا الحرمان لا زال قوة فاعلة في الآلام المعنوية التي يعانونها التي تساهم في دفعهم إلى الانحراف)... فقد يكون للمناخ الأسري وسلوك الوالدين والأشقاء آثار سلبية تفتقد بسببها البنت الأمان الأسري وتشعر بالحرمان العاطفي والذي يتمثل بالوقوف أمام رغبات البنت والحيلولة دون تحقيق احتياجاتها حتى ولو كانت مشروعة وضرورية، أو من المبالغة باستخدام العقاب البدني والمعنوي، وقد يكون الحرمان العاطفي عند البنات من سلوك الوالدين وسماته النبذ والإهمال وعدم المبالاة أو الاهتمام بحاجات البنت المادية والنفسية والاجتماعية، أو حتى الاهتمام بوجود كيانها الشخصي الاجتماعي بشكل يهدد مشاعر الأمن ويستحث مشاعر الإحباط، وقد يكون الحرمان العاطفي عند البنات بسبب التفرقة والتفضيل والتمييز بين الأولاد في المعاملة لأسباب غير منطقية كالتفرقة بين الذكر والأنثى أو التفرقة بالترتيب الميلادي أو تفضيل أولاد أحد الزوجات بشكل يفقد مظاهر الاستقرار الاجتماعي ويحد من الأمان والإشباع العاطفي عند البنت مما يؤدي إلى ارتكاب البنت لأفعال جنائية محرّمة (أخلاقية - مخدرات - مسكرات - سرقة) وأفعال جنسية محرّمة مع الآخرين بحثًا عن مشاعر الحب والحنان وانتقام وتشفٍ وكراهية للوالدين أو الأشقاء. انحرافات الزوجات وتؤكد المحاضرة جوهرة الصقر أن الحرمان العاطفي عند الزوجات قد يكون السبب في انحرافهن أخلاقيًا مما يعود بالآثار الخطيرة والمدمرة على الأسرة وعلى المجتمع وذلك بسبب وجود مناخ أسري مضطرب وغير سليم وبسبب ذلك حرمان عاطفي كبير، تتلخص مظاهره في انخفاض درجة التواصل الفكري والوجداني والعاطفي والجنسي بين الزوجين، والإهمال بصوره المتعددة، وكذلك عدم تعامل الزوج مع زوجته بأسلوب المودة والرحمة أو الالتزام بأداء الحقوق والواجبات، وعدم الاهتمام بمطالبها وحاجاتها ومشكلاتها قال تعالى: (وعاشروهن بالمعروف) إضافة إلى الفارق العمري والإكراه بالزواج، وبالتالي عدم التلاقي والتقارب بالأفكار والتفاهم والحوار لذلك يبحثن مثل تلك الزوجات عن الحب والحنان خارج نطاق الزوجية بسلوكيات محرّمة، ومن ذلك بسبب ما تعانيه الزوجة من إحباط وشعور بالعجز قد ترتكب بعض الأفعال المحرّمة كانتقام وكراهية للزوج ولو على حساب عرضها وكرامتها. إن الحرمان العاطفي في وجود تفكك أسري وفي جو ومناخ أسري يفتقد القيم والأخلاق والترابط العاطفي الاجتماعي يؤدي إلى مشكلات نفسية كثيرة لذا لا بد من توجيه الآباء ببرامج الإعلام المتنوعة باتباع أساليب معاملة والديه سوية مع الأبناء لخلق شخصيات ناضجة عاطفيًا ووجدانيًا مما ينعكس على إتباعها أساليب سوية في التعامل الزواجي، مع الاهتمام بالتربية الزواجية ووضعها ضمن مقررات الصفوف النهائية بالنسبة لطلاب المدارس الثانوية والجامعية، كما ينبغي على مؤسسات المجتمع دعم ومساندة الأسرة من المراحل الأولية من بنائها والتخطيط لفتح مكاتب استشارات أسرية بالأحياء تلحق بالمساجد لتقديم التوجيه والنصح والإرشاد للأزواج والأولاد بالأحياء في مشكلاتهم الأسرية، وينبغي تدخل مؤسسات المجتمع الدينية والاجتماعية لإيجاد قناة مناسبة لتزويج الفتيات بأسلوب شرعي ومقبول بعد أن تأكد ضعف الدور الأسري في هذا الجانب وزيادة مشكلة العنوسة في المجتمع، ينبغي على وزارة الشؤون الاجتماعية ووزارة الشؤون الإسلامية إنشاء مكاتب خدمات إرشادية للراغبين في الزواج تكون مهمتها المساعدة في اختيار شريك - شريكة الحياة من حيث التكافؤ نسبيًا من حيث المستوى التعليمي والثقافي والوسط الاجتماعي والمهني والدخل والمستوى الديني والخلقي والنضج العاطفي والجنسي والجسمي والعقلي وتقديم خدمات إرشادية تتعلق بأساليب المعاملة الزوجية وإدارة الأسرة وتربية الأبناء. توعية وتثقيف وتقترح جوهرة الصقر على مراكز التنمية الأسرية والاجتماعية عمل شراكة مجتمعية مع المؤسسات التربوية للوصول إلى أكبر شريحة من الجنسين لتوعيتهم وتثقيفهم بأهمية الزواج وكيفية التعامل مع الزوجة والأولاد وكذلك تهيئة الزوجة لدورها المطلوب منها حيال أسرتها وعمل العديد من المحاضرات والدورات التدريبية الخاصة بذلك وإقامة العديد من الملتقيات بشكل دوري أو سنوي واستضافة المختصين في شؤون الأسرة لإيضاح الأدوار المنوطة بكل من الآباء والأبناء، وتوعية الآباء بأن دورهم لا يقتصر على توفير النواحي المعيشية والاقتصادية والتعليمية فقط، بل يتعداها إلى الجانب النفسي والاجتماعي ومدى خطورة إهمال هذه الجوانب على الأبناء والزوجات والأزواج وبالتالي تأثيره المباشر على المجتمع، كما أن الأخصائيين الاجتماعيين لهم دور بالقيام بالتوعية بأضرار العلاقات الغرامية وأثرها على الصحة النفسية والاجتماعية على الإنسان في المجتمع ويجب أن يكون الإشباع العاطفي بصورة مقبولة في المجتمع تتوافق مع الذات والقيم والأخلاق والمعايير الاجتماعية وتنسجم مع أخلاقيات المجتمع. خطوات مهمة وتضيف الصقر أن هناك بعض الخطوات التي تجنب الأسرة المسلمة ظاهرة الحرمان العاطفي: * إشاعة مبدأ التعاطف والتسامح والإخوة والتكافل والتعاون بين أفراد المجتمع الإسلامي بشكل عام والأسرة بشكل خاص. * هناك تشريعات اقتصادية تكفل حياة كريمة للأبناء في المجتمع الإسلامي، وهناك تشريعات اجتماعية وتربوية تكفل حياة طبيعية تمكن الأبناء من أن ينمو نموًا سليمًا خاليًا من أي انحراف نفسي أو اجتماعي. * وهناك تشريعات قانونية تحمي الطفل وحقوقه في الإسلام بصورة عامة، وتوفر سورًا من الرعاية والاهتمام به. * يعد المنهج التربوي الإسلامي أن فترة الإعداد النفسي والاجتماعي للزواج في الإسلام لا تبدأ من فترة الخطوبة التي تسبق الزواج بقليل، بل تبدأ من فترة الطفولة، ومن أساسيات التربية الإسلامية في كيفية التعامل مع الجنس الآخر ومهمات ووظائف كل جنس ودوره في الحياة والرسالة. * قدم المنهج التربوي الإسلامي فلسفة خاصة بمفهوم الزواج ورسالته ودوره في بناء المجتمع وتكليف المسلم أو المسلمة إزاءه ودور المجتمع في تكوينه وديمومته، وعلى الرغم من حلية الطلاق في الإسلام واعتباره الحلال البغيض إلا أن تلك الحلية ارتبطت بإعدادات مالية واجتماعية ونفسية يحافظ من خلالها المشرّع الإسلامي على صورة الأسرة وديمومة أثرها بما لا يؤدي إلى تدمير الروابط الاجتماعية وتخريب شخصيات الأطفال. * ركز المنهج التربوي الإسلامي على أهمية العاطفة الأسرية واعتبرها الأساس الحقيقي للتكوين الاجتماعي من خلال الزواج وإن ضعفها أو انعدامها يؤدي إلى تفكيك وتدمير العلاقات الأسرية.