توازن القوى، وتقسيم مناطق النفوذ، والتضامن الاستعماري، كل هذه التعابير تكاد تفقد معانيها المصطلحية اليوم، بل لعلها آخذة في الخروج تماما من قواميس العلاقات الدولية في صيغها الجديدة, حتى مفهوم النظام الدولي الجديد الذي نشأ او تكرس في أعقاب حرب الخليج على إثر التحالف الدولي الذي قادته الولاياتالمتحدةالامريكية لصد العدوان العراقي عن الكويت,, نقول حتى مفهوم ذلك النظام الدولي تغير هو بدوره، واصبح من النادر استخدام هذا التعبير فيما وجد اصلا من أجله ومن ذلك الدفاع عن الشعوب التي تتعرض للاغتصاب او العدوان. العلاقات الدولية الجديدة غيرت تماما جلدها، فالاستعمار لم يعد هو الاستعمار، ومناطق النفوذ لم يعد العنصر الجغرافي اساسيا في شروطها، والصراع الذي قام لسنين طويلة (اكثر من نصف قرن) بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي انحسم تماما منذ أن سقط الاتحاد السوفيتي، ومنذ ان تهاوى جدار برلين، ومنذ ان انفرطت المنظومة الهشة لدول اوروبا الشرقية. لقد حل في مكان ذلك كله تصور جديد للعلاقات بين فئات المجتمع الدولي الجديد, وهذا التصور يشترك في بنائه عاملان مهمان: الاول: هو التعزيز المتواتر المتوالي لسيادة القطب الواحد، مهما قيل عن الاقطاب الاخرى الصغيرة التي تناوئه، او التي تدور في فلكه, والعامل الثاني: هو ان مشهد الصراع الدولي نفسه قد تغير، بل لعله انسلخ تماما من شكله التقليدي الذي يعرفه الجميع، انه اليوم صراع داخل القوى المكونة للنظام الرأسمالي نفسه، فاذا كان من مقتضيات تطور النظام الرأسمالي حرية التجارة ورؤوس الاموال، والليبرالية الجديدة في الاقتصاد، وهو ما نشاهد آثاره على مجمل شعوب الكوكب، فان من مقتضيات هذا الواقع الجديد نفسه ان الصراع الجديد، انما يستهدف اعادة اقتسام الاسواق، واقتسام مصادر المواد الخام، ولا سيما في البلدان النامية والفقيرة، ولهذا فان إلغاء الحدود، واختراق السيادات الوطنية او القومية، انما يمثل النمط الجديد لما كان يسمى في السابق بتقسيم مناطق النفوذ، او الاستعمار في شكل الوجود العسكري, ان الشركات متعدية الجنسيات هي التي اليوم، عبر وسائلها وادواتها، تمثل اذرع الاخطبوط وهي التي كما يتفق الكثيرون تفعل كل ما في وسعها لتسيطر على التجارة الدولية، فالاسواق هي هدف الاستعمار الجديد، وهي مناطق النفوذ التي يحتدم التسابق من اجلها، بحيث تزداد ديون الدول النامية اكثر مما يزداد ناتجها القومي. ان اقل من الف شركة تسيطر اليوم على اكثر من نصف الانتاج العالمي للسلع وللخدمات، وهي تعطي صورة واحدة فقط من صور الضغط والابتزاز الذي يواجهه سكان الكوكب الآخرون، ولا سيما في آسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية. وهكذا فان ملامح التوزيع الجديد تبدو وفق بعض التصورات كالآتي. ** تحتفظ واشنطن بنفوذها الاقتصادي في الامريكتين، ولا سيما في دول امريكا الوسطى والجنوبية, وكذلك في الجناح الآسيوي من العالم العربي. ** سيواصل الاتحاد الاوروبي التوسع في حضوره الاقتصادي في شرق اوروبا ووسط آسيا بالاضافة الى معظم بقاع افريقيا علاوة على الهند. ** ستحتفظ اليابان بريادتها التقليدية في آسيا. وبناء عليه فان العديد من مراكز الابحاث ترى ان القوى التي ستمسك بمفاتيح النفوذ في الالفية الثالثة هي: الولاياتالمتحدةالامريكية التي خرجت من القرن الماضي بالورقة الرابحة الكبرى. اوربا الموحدة. اليابان. وهذه القوى الثلاث تحظى مجتمعة بحصة تقارب 60% من التجارة العالمية وتبدو الفرص مفتوحة حسب بعض مراكز الأبحاث أمام الصين لتتبلور كقوة قادمة، ولا سيما إذا ما تمكنت من استقطاب النمور الآسيوية لتدور في فلكها. لقد نجحت مراكز القوى الثلاثة المشار اليها أعلاه في الولوج الى القرن الجديد وهي تتمتع بالريادة الاقتصادية وهذا هو الأهم اليوم، في مقابل التململ الذي يسود العالم النامي نتيجة الهوة السحيقة التي تفصله عن الدول الصناعية أي مراكز القوى الثلاثة نفسها على وجه الخصوص. وتشير بعض التقارير الى ان مقارنة مؤشرات التكافؤ الاقتصادي بين تلك القوى الثلاث تعطي الريادة لأمريكا في معدلات الرفاه الذي يمكن قياسه من خلال تتبع القدرة الشرائية فيها، ففي عام 1998 زادت القدرة الشرائية لدى المواطن الامريكي على 29 دولارا بقليل، وهي في اليابان 24 دولارا، وبلغت 17 دولارا وربع الدولار في الاتحاد الأوروبي. وبلغ نمو إجمالي الناتج المحلي الأمريكي 3,8% حسب النسبة المسجلة عام 1997 وهو 2,8% في أوروبا الموحدة و,08% في اليابان, وقد تفوق الاقتصاد المالي الأمريكي بفارق كبير عن نظيره الأوروبي والياباني في العام ذاته؛ إذ بلغت رؤوس الأموال في أسواق الأوراق المالية الامريكية قرابة خمسة تريليونات دولار، ونحو تريليونين وستمائة وستين مليارا في نظيرتها الأوروبية، وتريليونين وخمسمائة وثمانين مليارا في أسواق الأوراق المالية اليابانية. إن الأرقام الهائلة التي اشرنا اليها أعلاه توضح مدى الهوة السحيقة التي تفصل فقراء هذه الكوكب عن أغنيائه، وهي في الوقت نفسه تضعنا أمام حقائق الصراع في شكله الجديد، أي الصراع داخل المعسكر الرأسمالي ذاته، وهو صراع على اجتياح الأسواق، وعلى اختراق السيادات القومية، عن طريق تحرير التجارة، وعن طريق الليبرالية الجديدة التي ولدت عنها الشركات الضخمة,, تلك الشركات التي ألغت المفهومات التقليدية لتوازن القوى، وتقسيم مناطق النفوذ، والتضامن الاستعماري، فأخذت هي على عاتقها أن تحقق الفتوحات، وأن تتسيد على مقدرات الناس، وأن تمتص المنابع، لتزداد هي تضخماً ولتزداد الشعوب النامية ضآلة وشحوباً.