مثقفو أم عبدالله : سقى الله دار أم عبدالله، تلك المدينة الأربعينية، كما يبدو من صوتها عندما اتصلت بعماد الدين أديب مباشرة على الهواء قبل سنتين، لتسأل ببراءة ببراءة ساذجة مريرة: «ليه العرب ما يتجمعوا ويضربوا اسرائيل؟» وإذا كان لأم عبدالله عذرها، فما هو عذر أولئك المثقفون الجهلة، الذين ركبوا الموجة، فأخذوا يناطحون أمريكا بالحناجر على شاشات التلفزيون ومنابر الصحف قائلين: إن الحل بسيط وهو: أن يتوحد الزعماء العرب والمسلمون ليقفوا صفاً واحداً في وجه أمريكا أو أية دولة تسول لها نفسها أن تتعرض للأمة العربية بقطرة ماء! لو وصلنا الى هذا الحد، أو على الأقل الى الجاهزية له لم نحتج الى مواقف مثقفي أم عبدالله البطولية! ولم تضطر أم عبدالله أصلا الى طرح سؤالها المفجوع. على كل حال، يدي في أيديكم، قولوا لي كيف؟ ومتى؟. ولكني، وأنا أسجل ملاحظاتي حينما أكون مرتدياً الثوب تارة، والبنطلون تارة أخرى، أزعم ان الصفاء بين الشعوب العربية «والاسلامية» يحتاج الى قرنين من العمل الدؤوب، أما الوحدة فربما كانت بحاجة الى عدة قرون، ما لم تكن وحدة على طريقة صدام وكاظمة. شنشنة أعرفها من أخزم : عندما غزا صدام الكويت، قايض أمريكا بانسحاب اسرائيل من الضفة مقابلا لانسحابه من الكويت، وكأنه قد غزا جزر هاواي! أو كأن الضفة تعني لأمريكا ما تعنيه لها هاواي. وهدد بأنه سيضرب اسرائيل بالصواريخ وأعلن الجهاد لتحرير فلسطين! وكما انطلت هذه الحيلة على الشعوب اليائسة عيانية التفكير، انطلى عليها قسم ابن لادن بتحرير فلسطين، وكأنه استفاق بعد عقدين من الزمن ليعرف ان شعبا عربيا مسلما يعاني على مدى خمسين عاما من اسرائيل. رحم الله كمال جنبلاط فقد قال ذات يوم ان عددا من الأنظمة العربية لا يريد تحرير فلسطين حقا لأنها ستفقد مبرر وجودها. ورحم الله الشيخ إمام حين غنى:«لا صوت يعلو فوق صوت المعركة.. يا همبكة!» وهكذا استوت همبكة الأنظمة التقدمية مع همبكة الثوار!. الشعوب: لم يتجل «رسوب» الشعوب العربية في الانقسام والتشوش وردود الفعل سلبية المفعول الواردة أعلاه فحسب، بل إنه في نظري يعود الى أقدم من ذلك. بعد استقلال الدول العربية تقاطرت جموع من الأجانب من جميع أنحاء أوروبا وأمريكا وأوقيانوسيا على الدول العربية، ليس كدبلوماسيين فحسب، ولكن للعمل في شتى المجالات. جاءوا على مر العقود الخمسة أو الستة الماضية بأسرهم وأطفالهم بمئات الألوف. وعاشوا بين ظهرانينا سنين وتنفسوا هواءنا واختلطوا بنا بشكل وآخر، واستمعوا الى، وقرأوا، وسائل إعلامنا. بالمقابل ذهب الى هناك عشرات الألوف من العرب للدراسة والعمل وعاشوا هناك سنين وتجولوا في ربوع تلك الديار، فلماذا نحتاج الآن الى التأكيد لهم أننا أناس طيبون، وأن ديننا الاسلامي دين تسامح وانسانية، وينبذ الارهاب. أليس هذا دليل فشل على أننا لم نستطع أن نصنع منهم أصدقاء. ماذا كنا نفعل هناك؟ وماذا كنا نفعل وهم هنا؟!. والشعوب العربية «عيانية التفكير بالضرورة التاريخية» ولأسباب في ذاتها ولأسباب «حكومية»، تنتظر من ماما الحكومة أن تفعل كل شيء. واقتصر تفكيرها على نقيضين الخنوع أو البندقية، ولا شيء بينهما. أعني، تلك الشعوب المشلولة يعجز بصرها عن رؤية ألوان متعددة من الطيب بين هذين الخيارين. من منا فكر ناهيكم عن أقدم على بكتابة رسالة احتجاج الى تلك السفارة، أو ذلك الرئيس. وهذا أمر شائع ومتبع ومعروف وفعّال في العالم الغربي. ماذا سيحدث مثلا، في أعتى الأنظمة العربية لفرد أقدم على كتابة رسالة الى السفير الفرنسي احتجاجا على تصريح جوسبان منذ أشهر عندما وصم المقاومة الاسلامية في جنوبلبنان بالارهاب. هل ستقطع رقبته؟ أو يلقى به في السجن؟ يقينا أقسى ما يلاقيه مجموعة من السباب والشتائم وصفعتين على الوجه وثالثة على القفا وشلوت.. وكتابة تعهد.. فهل هذا ثمن كبير بالنسبة لمن يزعم أنه يحمل قضية توجعه؟ إذاً لا أظن أنه الخوف الذي يمنع مواطنا بسيطا، أو مثقفا جاهلا، من أن يبعث برسالة احتجاج حازمة، ومهذبة في الوقت نفسه، الى توني بلير أو ديك تشيني، ولكنه يعجز عن الرؤية الصحيحة والقصور في مؤشرات الصبر والمثابرة. تخيلوا ماذا يمكن أن تحدث مئات من الرسائل الفردية «خالية من البودرة البيضاء بالطبع» تقاطرت على السفارة الأمريكية في الرياض أو أية عاصمة عربية!. أنا هنا أتحدث عن رسائل فردية يكتبها بسطاء بصفتهم مواطنين، أما الرسائل التي تنشر في الصحف فهي مفيدة بدورها ومهمة ولكنها في النهاية موجهة بالدرجة الأولى الى المواطن القارىء، وكأن السفارات بأجهزتها المعلوماتية والمخابراتية عاجزة عن تقديم التقارير عن مواقف المثقفين. والحكومات: هذه المرة لم يكن ثمة مجال للمناورات السياسية مثلما هو الحال إبان غزو الكويت، ولذا نجحت كلها بتقدير مقبول أو جيد على أحسن الأحوال. وحينما أعلنت حكومات عربية تأييدها لمحاربة الارهاب في كل مكان انطلاقا من مبادئها، ومن كونها اكتوت بنار الارهاب، تسابقت أخرى تكتشف أدلة جديدة تقدمها لأمريكا، أو يطير وزير خارجيتها سراً الى بريطانيا، بعد الانفجار ببضعة أيام. والغريب ان المملكة العربيةالسعودية ومصر «وهما اللتان ينظر اليهما كأكبر صديقين لأمريكا في المنطقة» تتعرضان لنقد يومي في صحف أمريكا وتلفزيوناتها. لأنهما وإن كانتا مثل أمريكا صاحبتا قضية في موضوع الارهاب وقد اكتوتا بناره، إلا أنهما لم تسلما مطاراتهما وقواعدهما للقوات المتحالفة. ولكن لابد من كلمة حق أخرى: الدول العربية مهما اقتربت أو ابتعدت عن الديموقراطية الظاهرية، ومهما بلغت قوتها في الامساك بزمام الأمور، إلا انها جميعا تعيش هاجس الخوف من افلات زمام الأمور، وهذا ما يدفعها للتشدد والحذر الزائد عن اللزوم. ولأن الحكومات لا تختلف عن شعوبها في كونها «عيانية التفكير» فإنها تتبع مبدأ «الكل أو لا شيء» ولابد أن يكون الشعب معها بنسبة 99.99% وهذا ما يتأتى على مر الدهور. دعوني أوضح لكم ما أقصد: بينما يصرح رامسفيلد بأنه متفهم لظروف السعودية التي تجعلها لا تسمح لطائرات التحالف باستخدام مطاراتها فإن الاعلام الأمريكي لم يتوقف لحظة عن الهجوم على حكومة المملكة. ومع اعترافي بحرية الصحافة الأمريكية إلا أنني أعتقد جازما أنها ليست حرية مطلقة وأنها تتبع توجهات الحكومة بذكاء يقصر فهمنا عن ادراكه «لأننا عيانو التفكير». وأن إغفاله الجرائم الاسرائيلية وانحيازه لها لا يعود الى سطوة اللوبي الصهيوني المزعوم «كما نكذب على أنفسنا» ولكنه ببساطة يتسق مع سياسات الحكومة. وعندما طلبت الادارة الأمريكية، بهدوء معلن «تناظرها قوة غير معلنة» من قنوات التلفزة الأمريكية عدم اذاعة بيانات ابن لادن امتثلت للطلب. وهاهي بريطانيا تدرس منع بث قناة الجزيرة! بل ان الحكومة الأمريكية غضت الطرف تماما عن الانتهاكات لحقوق الانسان وحماية المتهمين في بحثها عن المشبوهين عن تفجيرات 11 سبتمبر. بل وسارعت الى سن قوانين تتنافى مع حقوق الانسان والحريات الخاصة، ويقول نعوم تشومسكي أن أمريكا ستتحول الى دولة بوليسية «وسيكون ذلك انتصارا لابن لادن وحركة طالبان. سيكونون قد أقنعونا أن نهبط معهم الى الحضيض». واستثني الحكومة الباكستانية من بين حكومات الدول النامية في التعامل الذكي. بينما تقف الحكومة قلبا وقالبا مع أمريكا إلا أنها لم تتدخل للتلاعب في نتائج استطلاع بين المعارضة 76% من الباكستانيين لاستخدام القوة في أفغانستان. بل وسمحت لمسيرات مؤيدة لطالبان وابن لادن وسمحت بتغطية اعلامية واسعة لها! ولكنها ترقب الوضع في حذر وتتدخل عندما ترى ان ما سمحت به قد يتجاوز الحدود. لماذا تفعل باكستان وهي لا تختلف عن باقي حكومات العالم الثالث بعدم ثقتها بشعوبها وفي بعدها عن الديموقراطية الحقة وحقوق الانسان؟ ببساطة لأن هذا مكنها من تبني موقف تفاوضي قوي مع أمريكا. وبذلك كان في ايضاحها للعالم ان هناك تبايناً بين توجهاتها وبين رؤى قطاعات من الشعب مصدر قوة لها. هل عرفتم لماذا نجحت الحكومات العربية بدرجة مقبول فقط؟! الموقف الدرامي : يختلف المنطق الدرامي اختلافا كبيرا مع المنطق الرياضي العقلي. بل ان المنطق الدرامي يقترب من المنطق النفسي حيث يقدم المرء على تصرفات كثيرة تتناقض مع قناعاته العقلية، «مثل التدخين من قبل بعض الأطباء». والدراما لا تحدث على خشبة المسرح فقط أو في السينما والتلفزيون فقط ولكن المنطق الدرامي يعمل في حياتنا اليومية. ففي أعماق اللاوعي الجمعي للناس يكمن التقدير للضعيف المطارد حتى ولو كان مجرماً من قبل باطش جبار ولو كان على حق. ولنكن صادقين مع أنفسنا ونحاول أن نتذكر كم من مرة كنا نتابع فيلماً سينمائياً ونتمنى ألا يقع المجرم الوحيد الذكي في قبضة العدالة. ليس هذا مجال البحث النفسي في هذا الموضوع. ولكني أقول وبقدر كبير من الثقة أن كثيرا من البسطاء ممن يتعاطفون مع ابن لادن إنما يفعلون ذلك بفعل المنطق الدرامي/ النفسي وليس بفعل موقف عقلي تحليلي اختياري محايد! وهذا ما يحدث بالنسبة للمتعاطفين مع طالبان. فاكس: 4782781 [email protected]