من غرفة الكنترول الأممية أسر للاخوة العرب بكل أسف أن الشعوب العربية حققت رسوباً مريعاً في امتحان الشهادة الابتدائية العالمي (بينما نجحت الحكومات بتقدير مقبول)، الذي بدأ يوم الثلاثاء 11 سبتمبر 2001م. وبالرغم من أن أياماً قليلة باقية في الامتحان مختصة بمواد الانشاء والتعبير، والخطابة، ولطم الخدود، وشق الجيوب، وشد الحبال الصوتية، إلا إنها لن تؤثر شيئا في نتيجة الامتحان. ولأنه لا يحق لي اذ أنا مجرد فراش في غرفة الكنترول الاطلاع على السجلات الدراسية للشعوب، لا أعرف عدد المرات التي رسبتها الشعوب العربية في الشهادة الابتدائية، إلا أنني متأكد أنها لم تواجه مشكلات كبيرة في النجاح في المراحل السابقة ابتداءً من الحضانة والتمهيدي حتى الوصول إلى الشهادة الابتدائية، ذلك أن تجاوز تلك المراحل بحسب نظام التعليم الأممي لا يتم بواسطة امتحانات. وأرجو أن يصدقوني حين أهمس في آذانهم أن هذه نتيجة متوقعة للاعتماد على الدروس الخصوصية، والاستعانة بالمدرسين الفاشلين. وأن جوهر العلاج هو اعتماد استراتيجية الفهم بدلاً من الحفظ والصم، واعتماد أسلوب التعليم المستمر، وضرورة التغيير الجذري في المناهج، ومن ذلك تكثيف المواد العلمية والعملية والذهنية، وليس كما هو حادث حيث تسود مواد الجعجعة والخطابة، والحبال الصوتية، على حساب المواد السابقة الذكر. الإعلام العربي: تجلى فشل الإعلام العربي الذريع بأوضح ما يكون منذ 11 سبتمبر فقد اعتمد على مبدأ رد الفعل، وترجمة ما يرد سواء كان مكتوباً أو مرئياً، وكان ما سمحت به قدراته المحدودة أسهل الأشياء: كرسيان وثلاث كاميرات ومذيع، وحوارات على الهواء. فلم تقم أي قناة على سبيل المثال، بإعداد برامج من أرشيفها! لم تقم أي قناة بعمل ملف أسبوعي حول الانفجارات وتداعياتها تلخص فيه للمشاهد ما دار خلال الأسبوع المنصرم، وتطرح توقعات للمقبل! ولم تقم أي قناة بحوارات مع روبرت فيسك، أو فليتشر الذي زعموا أنه مرشح الرئاسة القادم عن الحزب الديمقراطي، وانتشرت مقالته بالبريد الإلكتروني أو نعوم تشومسكي، أو اسرائيل ساحاك.. الخ. ولم تذهب أية قناة إلى دولة أوروبية، أو مدينة أمريكية لتحاور أناساً عاديين غير مختصين ولا أعلام في الشوارع والساحات هنا أو هناك، وتجمع بين آراء مختلفة، وتفتح حوارات مجدية، بدلا من الصراخ والعويل والشجار بين العرب المتحاورين. (ظهرت بعد كتابة مخطوطة هذه المقالة بعض البرامج الجيدة مثل «أولى حروب القرن» و«الحرب الجديدة»). وإذا كان من المؤكد أن الإعلام العربي يفتقد إلى استراتيجية واضحة لمخاطبة بني جلدته ولسانه، فمن نافلة القول أنه يفتقر إلى أدنى مقومات الفكر البناء لمخاطبة الآخر. فلم يقم أي جهاز باستضافة أوربيين أو أمريكان يقيمون في الدول العربية، وتبيان آرائهم، أو إقامة حوار معهم. ولم يقم أي جهاز عربي بتوجيه رسائل بأسلوب تقبله العقلية الغربية لعشرات الآلاف من الغربيين المقيمين في الدول العربية. مثل هذا لم يحدث، فما بالكم لو أنتجت أجهزتنا المشلولة أغنية باللغة الإنجليزية تخاطب الأمريكي والأوروبي، وتقول له: «أنا مثلك إنسان أحب السلام، وأكره العنف وقتل الأبرياء، وأنا قبلك وإلى الآن ضحية لأنواع مختلفة من الإرهاب.. الخ». تخيلوا لو ظهرت هذه الأغنية بعد 11 سبتمبر بقليل ماذا يحدث؟ ومنذ أن دشنت حرب الخليج الثانية إعلام الفضائيات تم تفريخ عدد هائل من القنوات العربية الفضائية بمعدل لا يفوقه إلا تكاثر الخلايا السرطانية. وملأت الساعات الطويلة بالأغاني وهز القحوف. وتسابقت على البرامج المباشرة على الهواء في ساعات الفراغ بين الأغاني، وغدت هذه البرامج «المودة» السائدة بينما هذا الطراز معروف عند الاوربيين والأمريكان بالراديو والتلفزيون منذ سنين وسنين، ولكن لم تظهر قناة عربية دولية موجهة بالدرجة الأولى للمواطن الغربي، أي باللغة الانجليزية مع ساعات بالفرنسية وأخرى بالألمانية (بينما تبث السي إن إن بعدة لغات!). طبعاً يبدو هذا اقتراحاً مضحكاً لأننا نحن العرب نهرب إلى قنوات السي إن إن، والبي بي سي، للحصول على المعلومة فكيف نتوقع ان نجذب المشاهد الغربي إلى قنواتنا الفضائية الأجنبية؟ ثم، هل سيضيع الفرد من بني الفرنجة وقته للاستماع إلى، أو مشاهدة، الحديث الممجوج والمكرر عن تحويل مياه البحر في السواحل العربية إلى طحينة، وتحويل تراب الصحاري العربية إلى تبر، واستحداث الألماس من صخور جبالها؟ أما أسخف ما حمله الإعلام العربي فهو السؤال: هل أنت مع قصف أفغانستان أم ضده؟ ومع أن الجواب معروف سلفاً (عادة هو جواب وسط وسيط متوسط أوسط) إلا أن السؤال وجوابه لا يغيران شيئا. فالضربة العسكرية قائمة وستقوم، والمهم كيف نستفيد من دراسة ما حصل، ومراجعة كل الجوانب، ونستعد من خلاله للمستقبل، وكل ما علينا أن ندعو الله، وأن نعمل على أن تطول هذه الحرب. وأن نأمل أن لا تزيد رقعتها لأن ذلك إيذان ببدء الحرب العالمية الثالثة التي لن تبقي ولن تذر. مشاعر متضاربة: لنتحدث بصراحة، بزعمي أن معظم العرب انتابتهم مشاعر الفرح في الوهلة الأولى وهو يرى البرجين يتهاويان. ولأنه لم يكن جزءاً من فيلم سينمائي يتفاعل المشاهد مع قصص أبطاله فإن ما يستقر في ذهن المشاهد هو منظر مبنيين يتعرضان للانهيار وكأنهما تمثال الحرية، أو برج اتصالات عملاق. رد الفعل هذا مبرر فهو من شعوب تعيش يومياً إرهاباً إسرائيليا، مع مباركة أو «طناش» أمريكي في أحسن الأحوال. ماذا نتوقع من شعوب بائسة يائسة غير هذا؟ بيد أنه بعد سويعات أفاق الناس على حقيقة أن البرجين ليسا تمثالين أجوفين وأنهما يموجان بالبشر الأبرياء، فاختلطت المشاعر وتمنى البعض لو فُجّر ذانك البرجان يوم سبت أو أحد فلا يحويان تلك الجموع من البشر الأبرياء، وقلة غمرهم إحساس بالتشاؤم وتوجس الخيفة من انعكاسات ما حدث. ما أشبه الليلة بالبارحة: قبل 11 عاماً قام العراق (أعني عراق صدام) بفيلم كاوبوي هوليوودي بغزوه الكويت مروراً بإعلانه بدء الوحدة العربية بالضم والفتح والكسر، ومنتهياً بوعيده بمقبرة عظيمة لأشلاء التحالف الدولي. وكانت الوساطات لحل الأزمة بالبوس والفلوس وحب الخشوم، فبدأت دبلوماسية منفضة السجائر الطائرة. ومع كل يوم وساطة، يظهر موقف أكثر تعنتاً، فأبتدأ العراق بإعلان حكومة ثورية جديدة، وانتهى بإلغاء الكويت وتسميتها كاظمة المحافظة التاسعة عشرة. علاوة على ما حل بالكويت، وشعبها شكل العراق تهديداً لكل دول الجوار، وبدأت الاستعدادات لإقناعه بفساد رأيه بالقوة، فأعلن أم المعارك. ولأن العقل العربي لم يتجاوز بعد المرحلة العيانية والتفكير الخرساني (الكونكريت) انقسم الشارع العربي (وكذلك الإسلامي) بشدة. وبفعل هذه المساندة نصف الشعبية وبعض الرسمية دفع العراق، وشعبه الكريم، الثمن غالياً. ورأينا على الشاشة مشاهد مخزية مثل تقبيل اقدام الجنود. وربما، لو لم يجد العراق هذا الدعم من جماعات واحزاب وحكومات عربية لتعقل، وتراجع وحقن الدماء. والعجيب هنا أن أهداف أمريكا تتحقق بفعل أولئك الذين يزعمون أو يعلنون أو يظنون أنهم إنما يقفون ضدها. فحرب الكويت حققت لأمريكا مكاسب لم تكن تحلم بها فوأدت عقدة فيتنام إلى الأبد، وحصلت على وجود عسكري ظاهري كبير ومقبول. وهذا ما سيكون بعيد المنال فيما لو انسحب صدام من الكويت في الأيام الأولى. وستنتهي حرب أفغانستان عن مصالح أمريكية كبيرة غير محاربة الإرهاب. وعندما تتعرض أي دولة لعمل إرهابي فإنها تعمل كل ما بوسعها لحماية شعبها ونظامها والاقتصاص من المنفذين ومن يحميهم فما بالكم بالدولة العظمى في العالم. لو كانت مصر (أو الجزائر أو اليمن) في مركز سياسي دولي ووضع عسكري يضاهي بريطانيا، مثلاً، هل تكتفي بمناشدتها تسليم الارهابيين المقيمين على أرضها، أو حتى ترحيلهم إلى دول أخرى، يقيناً ستضغط بشكل أقوى وربما بمقاطعة اقتصادية للحصول على تجاوبها. ليأت لي أحد بمثال على أية دولة، عبر التاريخ وليس الآن فقط سواء كانت دينية أو علمانية، شمولية او ديموقراطية، تسامحت راضية مثقال ذرة في شأن من تقول إنهم أجرموا بحقها؟ أيضا انقسمت الشعوب العربية (والإسلامية) بحدة، منهم من يقول: ولماذا ضرب أفغانستان؟ ومنهم من يقول: ولماذا يسقط ضحايا من المدنيين؟ وغيرهم يقول: نحن ضد الإرهاب، لكن المتطرفين المسلمين ليسوا إرهابيين؟ وآخرون حملوا صورة ابن لادن مما يزيد قضيتهم خسارة مثلما حال من كانوا يحملون صورة صدام. العجز عن التفكير السليم وضعف القدرة على الرؤية الواضحة جعل من الشارع العربي خاملاً غير فاعل، وأجهضت بالضرورة كل تحركاته لأنها تحمل عوامل فشلها داخلها. الألغاز: هناك أمور غامضة وعجيبة. ففصائل المجاهدين الذين سعوا إلى تحرير أفغانستان وحظوا بدعم شعبي كبير من المسلمين والدول الإسلامية وأمريكا وبقية كبار دول حلف الأطلسي شكلوا حكومة شرعية معترفاً بها عالمياً تحولوا إلى مجموعات ضعيفة مهزومة منزوية في ركن من الأرض الأفغانية. إذ انشقت الأرض عن طالبان بخمسة آلاف مقاتل بتدريب وتسليح عاليين، لتجتاح معظم أفغانستان وتحكمها فعلياً. وطالبان صنيعة باكستان، والأخيرة حليف تاريخي لأمريكا. ويتضخم جيش طالبان ليصل إلى حدود مائة ألف مقاتل في ظل حصار سياسي واقتصادي. هل توقف مجاهدو الأمس الذين كانوا يحلون بقلب كل مسلم عن كونهم مجاهدين وتحولوا إلى عملاء لأمريكا؟ وكيف تأتّى لطالبان كل هذا؟ وكيف تمكنت من البقاء وتسليح جيشها ولم تتفتق الأرض عن آبار للبترول أو مناجم للمعادن النفيسة؟ كل أدوات الاستفهام تستدعي أسئلة شبيهة بالألغاز لو حاولنا الإجابة عنها من قبل فلربما اتضح لنا قدر من الرؤية ونتحول إلى فاعلين بدلاً من متلقين. فاكس: 4782781 [email protected]