** ينشد الكاتب في ابعاد دوال هذه النصوص القصصية (حاجتنا للمتخيل) كما نص على ذلك في تقديمه المقتضب (ص9) ويفرض (الحزن) مردا للوازم هذا (المتخيل). وهو الذي شرع في تجارب سابقة على تفاصيل الواقع الانساني في بؤر دلالية تشف عن مقدرة ساردة تتقمص جذوة (ذوات) الشخصيات وتتعمق في تبسيط تعقيدات النفس الانسانية الى شفافيات تعبيرية ناجزة,, كما في مجموعة (رقائن الاوهن تنمو) الصادرة عام 1419ه عن دار شرقيات بالقاهرة. ** حيث يلتزم خطاب القص (بمحددات) تعبيرية لشخصيات,, تأخذ بعدها الواقعي من التباسها بحركة الحياة كما تستقي ديمومة وجودها من اشباهها في الحياة اليومية. وان كانت تترصد حركة التغيير باتجاه الحلم الكتابي وشفافية رسم الصورة المتحدثة للشخص,, فانها تسترد هيبة حضور واضح تفصح عنه الصياغة النحوية,, واساليب بناء الخطاب,, لشخصيات تتحدث عن نفسها,,! ** الأمر الذي يتغير الى الوجه الآخر من بنية الخطاب المعلن هنا في ضجر اليباس حيث يناجز (الكاتب) فيه خطابه السردي بالحديث عن (الغائبين). والذي يتولى (الكاتب) مهمة/ مشقة توصيفهم من الداخل,, باختزال معلن لهامشيات الظواهر,, الى مساس عميق بجوهر الروح,, وتفاصيل الذات,, يتلمسها بروحانية اللغة,, وفنيات نقلها الى داخل البصيرة الذاتية,, وفك مغاليق رموز الفعل بوصف العلائق المحيطة ونكء مضمونها,, السادر في قبضة التهميش,, والمحتمي ببساطة الموقع! ** فشخصيات (الغائبين) مضخمة بفيض وجودها العادي,, ونشدانها لجوهر الحياة ووجهها الاصفى,, مما لا تتيحه فرصة الظرف,, ولا جور الظروف,,! ومما يعلل احتماءها بنشوة لغة تفصيلية ومقننة,, تزامن أبعاد موقع كل شخصية ومحورها الوجودي,,! ويلج (الكاتب) اليها (بوصف) ينفذ الى العمق,, دون الاعتناء بالهوامش ومحيط الشخصية (الجغرافي) ففي نص (جنون مدروس) ص13 يستطيل الخطاب السردي الى (المجنونة) بإرهاص تبريري: (بين العقل والانخطاف فرق ضئيل لا تكاد تلملمه الا ويختفي,, هذا الأمر هو ما جعل هذا الشيخ المسن المبجل بوقاره,, يقدم على خطبة هذه الانثى (المجنونة),, فما كان يأبه بتقاطر لعابها,, واهتماشها الدائم وضحكها غير المبرر فالأمر لديه شبه عادي,, اذ الزواج حسب ظنه سينهي كل شيء ويجعلها امرأة مثل سائر نسائه الاخريات,,) ص 13. ** إذ الوصف هنا,, يعتلي قامة الخطاب ويلقي فيها تفصيلات حركة الشخصية و(بيولوجية) تكوينها,, ويستطيل,, ليطال عمق المحرك القناعي,, ودوافع التصرف,, والقرار بحركاته القناعية في اجمال وصفي,, ينتقي بؤر تأثيره في بنية النص كليا,, حيث ينتقل الى مشهد يراكم تجسيد موقفها التالي (,, في صباح يحمل رائحة مفاجأة الفاجعة,, اقتلع الطفلتين من يديها كان حذرا منها,,, وتنتابه الشكوك في أمر طفلتيه,, يتصور انها ربما نقلتهما لحظة انخطافها وهياج اعصابها,, استبدل ابواب البيت بأخرى اشد غلاظة,, ووضع على النوافذ حديدا مشبكا حصينا,,) ص14. ** فهذا الاختزال في الظرف الزمني لتتطور الحالة,, الشخصية,, يواشج نظام اللغة في اقتصارها على نموذج تعبير دال,, ناقل لبعد المضمون ومدلل على اجزائه,. وهو ما دأب عليه (الكاتب) في اصطفائه لشخصيات يحكمها بالنوعية ويراهن على اطلاق اسر كبتها بالحديث عنها,, وردها الى جذرها الادراكي حيث لا يشي النص بالحوار بينها وانما بالفعل الحركي,, والتصرف المبرر بمسبوقه القناعي,. تماما مثلما يؤسس في نص آخر اشكال الانتقال المكاني, المنحاز لظرف (وظيفي) الى تأمل عارم في آساه ,, وملاحق بدهشة التبدل,, حيث ينسج بلغته تلك منافذ لتوصيف يناغي فروق الحدث,, ويلخص مجمل الحالة الانسانية لشخصية (ما) ترتاب معضلة الانتقال (النقل) ويبدأ (الكاتب) بمناجاة حديثها (السري) وينقله الى (وضعية) (نصية) تكشف خزائن احتراقاته,, (في دخوله البناء شبه المهجور ,, خلف وراءه شجرة نبق شاخت وتعدل يباسها,, وحارس مازال يرقبه بلا اهتمام وقف امام مصعدين معطلين وضع بفتحتيهما المعدنيتين حوضا زهور اصطناعية باهتة,, زغب الحمام,, وما خف من ريشه يتطاير امامه في هذا البناء المتآكل وشبه المهجور) ص57. ** وبعد الانتقال بحركة النص الى داخل محورها الشخص,, وتنامي حدثيته في تناسب بين الحدث وانعكاسه في ذات الشخصية,, والتي يتم تشكيل حركاتها,, ومواقعها ومواضع توتر علاقتها بالموقع الجديد ينتقي لها (الكاتب) صياغة منفلتة من عادية الحوار وعلانيته في موقف (خاص) يقارب فيه وعي الانسان ببعد المكان (الاول) وألفة علاقته به وانشطار الذات الى وضع (مرعب) كما يرسمه (النص) ويجير موقفه الشخصي الى اعماق دخيلة الاحساس ورهافته حتى يسم,, (النقل) ب(المنفى) يصل الى نهايته وهو يتزايد احساسا بحجم فجيعته (,, انثيالات رائحة زبد القهوة الفائر والمحروق ووجه هذا الرجل المتغضن، وطيف مذاقها,, كان هو العزاء في هزيمته المبكرة امام طغيان فاجعة المنفى,, ودوي نقله الى هذا البناء شبه المهجور) ص61. وهو يلتزم وبتركيز صارم التأكيد على اشكالية (الفاجعة/ المنفى) دون انفلات في سياق النص وتنامى حدثيته الى دال جزئي او مسار ثانوي في النص,. اذ ان المواقف المتبدلة والجديدة على مستوى الفعل الحديثي,, تنزع بمهاداتها الدلالة الى تأكيد البعد الدلالي ذاته,, والذي شفت عنه سطور النص الاولي,. ** وينجز (الكاتب) وعبر هذه التجربة انتقالا (وظيفيا) للغة من كونها خاما لاستطالة السرد,, وغواية لاستطرادات التأمل,, وحمولة لحواشي المشهد,, وهوامشه، الى فعل سردي يتناغم مع (ايقونة) القص,, وبناء مشهد يكتمل بتشكلاته,, ويرتكز على بؤرة (نصية) يسعى لتكوينها,, دونما ارتجاع فانتازي او ترميز مغلق ,, بحيث لا تحتمل طبيعة الشخصية/ والحدث الارتداد الى مثل هذا الاتجاه,. او توغل في التأويل,, فاستنطاق طبيعة الحدث,, والشخصية (الغائبة) بوجودها التجريدي,, تعطي للكاتب حرية ادماجها في (نص) يحفل بها وبممكنات تعبيرها الواقعي,, المعبر عنه برؤية الكاتب,, والممهور بنظرته,,! كما ان الشخصية ذاتها,, تسبق الحدث,, إذ هي صانعته,, وكما ابتغى ذلك (الكاتب),, ومن ثم فهي مجيرة وفقا لديناميكية فنية مشدودة,, الى مثيلها الواقعي,, والى خرفها البيئي,, وأطر علائقها الاجتماعية,. ** ولغة تنهض (بهكذا) مضمون لابد من اداء ديناميكي,, يسترق اشعاع توترها من محيط غريب,, ومتشابك,, ومتباين في الوقت ذاته,, بفعل استثنائية وضعه,. حيث ترتد (اللغة) الى بدايات انبثاقها في بنية المشهد القصصي,, منسجمة معه ومؤكدة على حقيقة دلالته,. ويعبر (الكاتب) عن حالة الشخصية بعد احتواء اولي للحدث,, يمكنه ان يكون مهادا يحرض على تلقي تبعاته,, ويتحفز الى نهايته,. فالشخصية في مجموعة (ضجر اليباس) مغيبة على صعيد الحوار,. ولكنها ناطقة بتجسد فعلها,, وبلغتها القصصية الناقلة لمحتواها واشكالها وهو ما اراده (الكاتب) (قصدا) في تقديمه للمجموعة ص 90. ** وبينما تتسامى لغته في تفصيل ناموس حدث ماض,, يعمق الكاتب من التصاقها بحميمية الناقل الصادق,, والمستشف المرهق,, كما في نص (برق على قبر) ص33. (في جوار القبور المتضامة,, لاذ الجسد في ثقب الارض محدثا دوي الاجتراع الخوائي، ومخلفا وراءه في الاعالي رائحة طيب، وماء يرافقه البارق بأطياف العذوبة,, تحثو الايدي باعتضاد لازم تراب الارض على قبة الخلوة المعتمة فيما الماء يهمي بفيض سماوي ليولد هجسا خيِّرا على رجل راحل,, ذو العباءة لم يأبه بالوصايا اذ لم يشارك في دفن (حالم) ليكتفي بتقليب عبر المشهد الخاطف تحت برق قادم ينفح الكائنات اسرار البريق فيما التراب ينفر عن وجه الارض لترتكز الشواهد على القبر في حدود الهامة والارجل المتضامة بصمت أبدي) ص34. ** فمستوى نقل المشهد من مرحلة اللقاء البصري الى الوصف اللغوي,, المنحاز الى شعرية تفرضها طبيعته لم ينفلت الى فضاء استطراد تأملي تال,. وانما انتقل الى مشهد آخر يتناغم وتراتبية الحدث,, ومواقع نصانيته على حقيقة الحدث ذاته,, وتجربة انفلاته من مُشاهد متخيل,, الى توصيف مكتوب واللغة هي مداه وآليته الناقلة,. كما ان انسجام مضمون هذه المجموعة في توحد دالها التعبيري,, لتكون حديثا عن (الغائبين),, او المغيبين!! من فضاء القص الى مشهد المتخيل,, تعطي لنمط التعبير مدى للحكي,, باعتباره محركا ينتصف رحلة النص من المتخيل الى المكتوب. * ضجر اليباس,, عبدالحفيظ الشمري مجموعة قصصية صادرة عن نادي الرياض الادبي 1421ه.