يكتسب الحوار أهمية خاصة عندما يكون المتحدث عن صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز -رحمه الله- هو من رافق سموه سنوات طويلة وعمل إماما لمسجد قصره (العزيزية) في العاصمة الرياض وشهد الكثير من مجالسه العامة والخاصة، ذلكم هو الشيخ محمد بن سعود الجذلاني المستشار الشرعي والقانوني الذي رصد عددا من المواقف والمشاهد الإنسانية مع سموه واستعرض جوانب مهمة من حياته في حوار خص به (الجزيرة) تقرؤونه في الحوار التالي: صفات شخصية كمدخل للحوار أود أن تحدثونا عن الصفات الشخصية التي كان يتمتع بها الأمير سلطان؟ - لا أعتقد أن مثلي يمكنه استيعاب الصفات الشخصية لرجل عظيم من نوادر الزمان مثل سلطان بن عبدالعزيز. فدون مبالغة أؤكد لك أن كل صفة من صفات الخير وفضائل الأدب ستجدها في شخصية سلطان، ولو قمت بعمل استفتاء على كل أفراد المجتمع سواء من خالطوا الأمير سلطان أو سمعوا عنه فستفاجئك إجاباتهم التي ستكون متنوعة شاملة لكل الصفات الفاضلة وكل منهم يستشهد على ما يقوله بموقف أو عدة مواقف للفقيد رحمه الله. وإنه من الصعب جدا وغير المقبول وأنا أعرف ذلك تماما أن ندّعي الكمال لأحد من الناس إلا أنه في نفس الوقت لا يمكن إلا أن نعترف بأن شخصية سلطان -رحمه الله- شخصية فريدة نادرة حباها الله بالفضائل والمكرمات والأخلاق التي يندر أن تجتمع في شخص. وقد كانت العرب قديما تقول: إن الكرم يغطي عيوب الرجل. فكيف بك ترى سلطان بن عبدالعزيز وقد جمع إلى الكرم خصالا وسجايا كريمة متنوعة وصل فيها كلها إلى أعلى المراتب فما بين الكرم والشجاعة والصدق والتواضع والبشاشة والحلم والصبر والصدق والقوة في الحق.. الخ ذلك من الصفات. ثم إن سلطان بن عبدالعزيز ليس مجرد شخصية لمعت في زمن قصير ثم انطفأت، إنما وصل إلى هذه المرتبة الرفيعة وتبوأ قلوب الناس خلال أكثر من ستين سنة من العطاء والبذل والبناء والتضحية والصبر، وقد عرفتهُ أجيال ماضية وأجيال حاضرة وستبقى تعرفه الأجيال القادمة غفر الله له. لذا فإني أؤكد لك أنه لا يمكنني أبدا الحديث بإسهاب عن صفات الأمير سلطان الشخصية ولكني فقط أحيلك وأحيل القارئ إلى ما كتبته ونقلته وسائل الإعلام المحلية والعالمية منذ اللحظة التي أعلن فيها نبأ وفاته -رحمه الله- وبمجرد الاطلاع على هذه الحصيلة تعرف حقيقة شخصية سموه غفر الله له ورحمه. مواقف إنسانية رافقت سمو الأمير عدة سنوات ما أبرز المواقف الإنسانية التي عايشتها مع سموه؟ - من الطبيعي أن أوضح لك أني حين تشرفت بلقاء الأمير سلطان -رحمه الله- والالتحاق بشرف خدمته كان ذلك مطلع عام 1415ه وكنت في بداية شبابي، وهذا يعني أنه وإن منّ الله علي بالاطلاع على القليل النادر من المواقف الإنسانية التي كانت للفقيد، إلا أنه فاتني أكثر بكثير مما أدركت، فمواقف سلطان الخير -رحمه الله- يرويها الآباء والأجداد الذين عرفوا سلطان وهو في مقتبل شبابه ومنذ ذلك الحين وقد بدأ نجمه يسطع في فعل الخير والنبوغ والتفوق. إنه ليس صعبا أن يكون لبعض الناس موقف إنساني أو موقفين أو ثلاثة، لكن الصعب جدا أن يظل ّ الإنسان قرابة الثمانين سنة وهو منبع لمواقف الخير ومصدر لكل إحسان وفضل كما كان الأمير سلطان -رحمه الله-. فليس غريبا ولا جديدا أن أقول لك: إن سلطان -رحمه الله- في يوم كذا وكذا تصدّق وفرّج كربة مسكين أو تبرع له بمبلغ مليون ريال أو أكثر أو أقل أو اشترى منزلا لأسرة أو سدد دينا أو عالج مريضا أو أعتق رقبة. فمن عدم الإنصاف لسلطان الخير أن أذكر لك مثالا أو مثالين وأنا أعلم مئات الحالات الإنسانية التي اطلعتُ شخصيا على تكفل الأمير سلطان بها، وغيري يعلمون أكثر مما أعلمه أنا. فما سُمي -رحمه الله- سلطان الخير إلا بعد سجل حافل بالعطاء والبذل والكرم والجود والإحسان، كما أن هذا اللقب لم تسبغه عليه جمعية ولا منظمة ولا غيرها، بل هو لقب عفوي أسبغه عليه الناس وتداولوه بينهم ورأوا أنه أقلّ ما يوصف به عطاء سلطان بن عبدالعزيز -رحمه الله-. وعطاء سلطان ليس مقصورا على الفقراء والمحتاجين والمرضى والأيتام وأمثالهم، بل هو كرم شمل الأغنياء أيضا، فقد يكون الأغنياء الذين شملهم عطاء سلطان لا يقلون عددا عن الفقراء، فعطاياه شملت الأمراء والعلماء وشيوخ القبائل والمفكرين والمثقفين وكباء العسكريين، بل حتى شملت عطاياه كثيرا من رجال السياسة والفكر والأدب والعلم في الدول العربية وغير العربية. ولا تظن أن المكانة التي وصلها سلطان بن عبدالعزيز جاءت دون بذل وتضحية وتعب، فكم من رجال السياسة من يتمنون أن يكون لهم ولو قليل من مكانة سلطان في نفوس الناس ولدى كافة الدول، لكن ثمن هذه المكانة مكلف وباهظ جدا لا يقدرون عليه. كما أن ثمنها ليس فقط بالمال، بل بذل سلطان الخير مع المال وبنفس المقدار ثمنا آخر من الخلق الرفيع والحكمة الكبيرة ورجاحة العقل واحتمال الصعاب. علاقة وطيدة حسنا.. ماذا عن العلاقة التي تربط بين سموه والعلماء والمشايخ؟ - مصيبة العلماء في فقدهم لسلطان الخير لا تقل عن مصيبة الفقراء والأيتام والمساكين الذين كان -رحمه الله- متكفلا بهم، لأن العلماء فقدوا بموته رجلا كبير القدر سياسيا قائدا حاكما يعرف للعلماء مكانتهم ويعاملهم بما يليق به وبهم من توقير واحترام وإجلال: فكان يقابلهم بكل بشاشة وترحيب ويخصص لمقابلتهم أوقاتا خاصة إضافة للأوقات التي يقابل فيها سائر الناس، ولو أنك زرتَ مجلسه يوم الجمعة في مزرعته لرأيت كيف أن العلماء بجواره يبادلهم الود والترحيب والحفاوة ويقضي حوائجهم، بل إنه إذا رأى أحد العلماء يريده في حاجة ولا يود عرضها أمام الناس انتظر إلى بعد تناول الغداء ودخل معهم في غرفة مختصرة ليس فيها سوى الأمير والعالم ويمكث معهم أحيانا الوقت الطويل.كما تتجلى مكانة العلماء عند سموه -رحمه الله- في قبول شفاعاتهم ولو تكررت حتى إن بعض العلماء قد يكتبون له عشرات الشفاعات لأناس مختلفين وفي حاجات مختلفة فلم يكن -رحمه الله- يرد تلك الشفاعات. وكان -رحمه الله- يوجه الموظفين لديه بعدم منع أي من العلماء أو المشايخ أن يدخلوا عليه في أي وقت سواء في مكتبه بالوزارة أو بالديوان أو بيته أو مزرعته، حتى كان يستقبل كثيراً منهم وقت الغداء في بيته بعد خروجه من العمل.كما كان العلماء أيضاً يفزعون إلى الأمير سلطان كلما حدث عندهم إشكال أو أمر يستدعي التشاور أو النصيحة أو كان لهم أي ملاحظة على أمر من أمور الدولة، فكان -رحمه الله- يصغي إليهم ويوقرهم ويعدهم خيراً ويبدي لهم كامل الاهتمام والتفاعل والتفهّم لمواقفهم ويثني عليهم خيراً وما كانوا يخرجون من عنده إلا وهم في تمام الرضى. ومن مظاهر حبه -رحمه الله- للعلماء ومعرفته بمكانتهم أيضا أنه كان يجعلهم محل ثقته عبر توزيع الصدقات والزكوات ويعطي كثيرا منهم مبالغ طائلة يقسمونها في المصارف التي يرونها باجتهادهم حتى إنه في موقف واحد أعطى سماحة الشيخ عبدالله بن جبرين -رحمه الله- عشرين مليون ريال لقسمتها على المحتاجين. القضاة ماذا عن تعامله ومواقفه مع العاملين في السلك القضائي؟ - علاقته -رحمه الله- بالقضاة غاية في الاحترام والإجلال، يعرفُ لهم مكانتهم ويؤمن بأهمية وخطورة دورهم في تحقيق العدل، وكان -رحمه الله- يحترم كثيراً أحكام القضاء ويلتزم بها ولا يقبل أبداً التدخل في القضاء، وهذه سياسة عامة للدولة ولولاة الأمر جميعاً منذ عهد المؤسس رحمه الله، وأذكر من أمثلة ذلك ما حدث معي شخصياً حين عُيّنتُ في القضاء في فرع ديوان المظالم بأبها وكنت وقتها أعمل لدى سموه أبدى اهتماما ورغبة في عدم انتقالي وبقائي في العمل لديه وقال لي بالحرف الواحد: «ما نسمح لهم ياخذونك بنكتب للشيخ ناصر كتاب نطلب يخلونك في الرياض وإذا ما وافقوا أخذناك عندنا في المكتب» وفعلا كتب -رحمه الله- للشيخ ناصر الراشد خطابا «أحتفظ بصورته» طلب فيه إبقائي في ديوان المظالم بالرياض. إلا أن الشيخ ناصر اعتذر من سموه، فما كان منه -رحمه الله- إلا أن قبل اعتذار الشيخ ناصر وقال لي: (ما نحب نضغط على الشيخ لأنها وظيفة قضائية ويمكن فيه تأثير على قضاة آخرين). وقد باشرتُ العمل في أبها وبقيت مدة سنتين ونصف تقريبا ثم أخيرا أمر -رحمه الله- بنقلي لاعتبارات متعلقة بظروف خاصة عندي عرضتها على سموه. لقد استقى سلطان بن عبدالعزيز -رحمه الله- حب العلماء وتوقيرهم من تربية وسيرة والده المؤسس غفر الله لهما جميعا، فكان توقير سلطان للعلماء والعلاقة الوثيقة التي تربطه بهم وتربطهم به أمرا قديما منذ وقت العلماء السابقين سماحة مفتي المملكة الشيخ محمد بن إبراهيم ومن كان في عصره ومن بعده من العلماء أمثال الشيخ عبدالله بن حميد والشيخ عبدالعزيز بن باز وغيرهم الكثير رحمهم الله جميعا وجمعنا بهم في الجنة. سموه والشيخ ابن باز لن أنسى موقف سموه -رحمه الله- عندما زاره الشيخ ابن باز -رحمه الله- حيث كانت تلك الزيارة بعد عودة الأمير سلطان -رحمه الله- من رحلته العلاجية التي أجرى فيها عملية في الركبة وغاب قرابة أربعة أشهر، وحين عاد -رحمه الله- توافد عليه المواطنون من كل مدينة وقرية يسلمون عليه ويهنئونه بالسلامة، وفي يوم مشهود أمام آلاف المواطنين بينما كان -رحمه الله- يُسلم على الناس إذ جاءه خبر وصول سماحة الشيخ ابن باز -رحمه الله- فما كان من سموه إلا أن قطع السلام على الناس واتجه جهة باب المجلس لملاقاة الشيخ ومنذ طلع الشيخ عليه قال الأمير: «الله يهديك يا شيخ الحق لك أنا كنت أنوي أجيك قبل تجيني وقد اتصلت بالابن أحمد - أحمد بن باز - وقلت لا يجيني الشيخ أنا بجيه» وقبّل رأس الشيخ وأجلسه جواره وبدأ الشيخ -رحمه الله- يتكلم فأمر الأمير بوضع مكبرات الصوت فكانت كلمة الشيخ عن شكر نعمة الله علينا بعودة الأمير وتكلم عن الابتلاء والمرض وفضلهما وفضل الصبر وأهمية التلاحم بين الراعي والرعية. غفر الله لهما جميعا وجمعنا بهما في الجنة. من موقع الأمير سلطان -رحمه الله- في الدولة وفي وزارة الدفاع كيف ترى أهمية الدور الذي كان يقوم به؟ - الأمير سلطان -رحمه الله- من أركان الدولة وأعمدتها، ومن الذين اضطلعوا ببنائها منذ أيام التأسيس الأولى فهو شريك في تأسيس الدولة السعودية وبناء نهضتها وازدهارها، وقد كان له -رحمه الله- أدوار كثيرة جدا أكثر من أن تحصر في ذلك لكن اسمح لي أن ألفت النظر إلى أن الأمير سلطان -رحمه الله- قبل أن يشارك في حماية الدولة عبر الجيش في وزارة الدفاع والطيران، كان له دور بارز في حمايتها عبر عدة محاور أخرى قد تكون أهم كثيرا من قوة الجيش ألا وهي: - حماية الدولة بالإيمان بالله عز وجل وتحكيم الشريعة حيث كان -رحمه الله- طيلة حياته داعية إلى الإيمان والإسلام ومؤكداً لأهمية العقيدة الصحيحة في كلماته التي يلقيها على الجيوش ويذكرهم دائما بأهمية ذلك في تحقيق القوة والنصر. بل لم يقتصر على الكلمات حتى حولها إلى عمل عبر تأسيس الإدارات الدينية في القوات المسلحة وفروعها وإمدادها بالدعاة والوسائل المعينة وكان كثيرا ما يتبرع لها ولفعالياتها من ماله الخاص، وأمر بمسابقة سنوية في حفظ القرآن الكريم بين العسكريين، واعتنى بالتوعية الدينية في مستشفيات القوات المسلحة، حتى صارت الجهود والأموال التي تصرف على الشؤون الدينية في القوات المسلحة لا تقلّ عن وزارة الشؤون الإسلامية، وكان يأمر بتوفير الأئمة وإرسال الدعاة لكل بقعة يكون للجيش فيها تواجد ولو مؤقتاً. فهل تعلمُ أي جيش في أي دولة يتوافر فيه مثل هذا الوجود الديني الإيماني الفاعل؟ وما مقارنة ذلك بالجيوش التي من أبرز أنظمتها فرض حلق اللحية على المنتسبين لها؟