يا رحيل يغرقه الخوض في لجج ذكريات ما قبل انطفاء أنوار الكون في عينيه.. ، لا تحركي تيارات أمواج لا تزال تهدر في كيانه.. تغمر فيه كل حي فيه..، العفو يا رحيل فأنا أعلم ان التذكر هو دأب البشر.. فديدنهم البكاء على أطلال ما تولى وانقضى.. فمحال عليه الانسان ان يستوعب الدرس رغم رفرفة الشواهد حواليه، وأنين معالم السوابق خلفه، وصراخ علائم اللواحق أمامه.. فكل البشر قبلك خاضوا غمار معارك وحروب الأزمان، فخسروا من عوادي الأزمان ذواتهم..، مثلما خسر هو ذاته برحيلك يا رحيل. يا كل مساحات الكون الرحيب معها فقط.. ما هو الذي ستخبرينه عنه من ذكرياته؟! لحظات لرحيل بعيد انتفاء عوامل البقاء؟! حين كان مكرهاً هو قدره الرجوع.. حين كنت مكرهة أنت قدرك البقاء.. حيث منه كان الرجوع الأبدي.. ومنك كان البقاء السرمدي.. وأخيرا كانت لحظة اللحظات.. هو ذاهل يسرق النظر اليك ليطمئن عليك.. وأنت الذهول تبحلقين في وجهه تارة.. وتمسكين بيده تارة أخرى.. وتارة يرهقك الموقف فتغادرين نحو النافذة.. فتنظرين من خلالها نحو أفق بعيد يزيده الفراق بعدا وبعدا..، لتعودي أدراجك تعبثين بشعرك كأنك تبحثين فيه عن عزاء.. وهناك هو متسمر يردد عجز بيت شعر نصه:«.. يا ليت معرفتي إياك لم تكن». يا رحيل: لا تذكريه بسفح بركان الجبل الذي أعلن احتجاجه ذات منتصف ليلة صيف حالمة..، أقسم لك أنها لن تعود.. فما مضى لا يعود يا رحيل.. لا تذكريه بالأجمل فيك سذاجتك تلح عليه بالبقاء.. لا تذكريه اجابته الدامعة.. تألمه من الرحيل يا رحيل.. ألمه من تبعات البقاء.. حيث ضميره الوفاء.. قلبه يذيب قلبه انتفاء الوفاء.. يشده صوبها «هي فقط».. كل الحب.. كل الوفاء.. كل الشوق.. يجذبه نحوك تارة.. ونحوها تارة.. فيتجزأ من ألم الدنيا حين تضع خيار القلب في كفة وخيار الروح في كفة أخرى ثم تمنحك خيارا واحدا فقط!!.. هذه هي الدنيا كما اعتدتُ القول لك دائما عنها.. ظالمة هي يا رحيل.. في الأخير يعلن يا رحيل الرحيل.. يحط الرحال.. فليته يا رحيل لم يحط الرحال.. يا كل أزمانه المتقادمة والقادمة، يا كل الحواس فيه.. يا كل الكائنات الجميلة حواليه.. يا نبض الحياة في خافقه.. لا أحد سواك يمنحه الحياة حين تغادره من ألم الواقع الحياة.. فأنت ذكرى الذكريات، ما فات منها لم يمت ولن يموت، أمَّاما لم يكتب له القدوم فلم تكتب له الحياة..، فكل ما في الأمر أنه غسلك بالدمع طهرك من دنس الحياة.. لَفَّك بحزن النوارس الوفية المهاجرة.. كَفَّنك بآمال اللقاء المحال.. ثم حفر لك أقصى مكان قصي فيه.. فواراك.. دفنك في أعمق أعماق كيانه يا رحيل..، محال ان يراك سواه.. أو يزورك غيره.. لا يعلم عنك إلا هو.. لا يحدّث أحدا عنك إلا نفسه. فصمته عنك حديثه اليك عنك.. بالصمت يحدثك حيث لا شيء سوى الصمت جبل يعصمه من الطوفان.. صمته مركب انقاذه لكيلا يا رحيل يغرقه الطوفان.. لئلا يقتله يا رحيل قهر الطوفان.. فهكذا هي الحياة يا رحيل.. هكذا هي كانت.. كائنة.. ولسوف تكون.. تحيا فيها الأشياء لتموت فيها الأشياء.. يُزرع فيها الزرع.. ويُحمد فيها الضرع.. وتُستنبت الأزهار فيموت الزرع، ويجف الضرع.. وتموت كذلك تموت كذلك.. حتما تموت فيها الأزهار، فالحياة هي قاتلة أزهار يا رحيل.. إنها أغرب رحلة، أعجب ترحال يا رحيل.. عجيبة هي غريبة..، تتخلق فيها الأشياء لتفنى، وتنسج فيها الأشياء لتبلى، وتنصب فيها السواتر لتتعرى، وتتراكم فيها الآمال لتضمحل الآمال.. كل الآمال في سراديب العدم المضحمل. فعزاء الأسى فيها يا رحيل ان كل ما يحويه المضحمل مضمحلا، حيث الحياة وعاء المضحلات،المأمولات، المنطوقات الكواذب، المكذوبات النواطق على عواهنها آمال تغذ السير نحو الاضمحلال، متشبثة بأوهام البقاء. إنها الأمل تشبثا بالوهم المضحمل يا رحيل.. أواه يا رحيل.. فلو استقبل من علمه ما استدبره..، لو علم آنذاك بعضا مما يعلمه الآن من حقائق الزمان السوداء.. وترهات المبادىء المدعاة.. وخيانة القريب الأقرب، لما كان يا رحيل ما كان.. ولما كان ما هو الآن كائن..، لو علم ما يعلم لجفف كل منابع الوفاء في كيانه..، لتبرأ من كافة «كريات» الاخلاص في دمه..، لقطع أوردة الحنين في جسده.. لأعدم جميع غرائز الشوق في فؤاده.. لأراق دموع المآقي الدوامع على أرصفة الغربة..، لاستنسخ للخيانة روحا فأزهقها بيديه..، لأنار بأنوار الرحيل مناطق الظلام في الأرواح الشريرة الظالمة المظلمة.. ولحثا يا رحيل التراب في وجه التراب... .. فلك من الحب الصامت يا رحيل ما يُنْطِق بصَمْته صمَّ الجبال الصوامت..