إن توجيه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز - حفظه الله - بالسعي مع الدول والمنظمات الدولية المعنية لتأسيس مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات يُعتبر خطوة بناءة ورائدة، وتنقل العالم الإسلامي من محيط التأثر إلى المؤثر الذي يصنع المبادرات لا الذي يتلقاها، ولا سيما مع ما أُشير إليه من مضامين قيمة سيعمل عليها هذا المركز من تشجيع التفاهم والتعاون المشترك بين الناس، ودعم العدل والسلام، ومعالجة التحديات المعاصرة التي تواجه المجتمعات كالمتعلقة بالكرامة الإنسانية والمحافظة على البيئة والتربية الدينية والأخلاقية والحد من الفقر وغير ذلك. إن هذا المركز وبهذه المضامين وعلى هذه الأسس، سيكون عند الاحترافية في تنفيذه وبلورة مشاريعه - نوراً يضيء حلكاً من ظلمات الصراعات والمشاحنات غير المبرَّرة في أكثرها. والحديث عن الحوار ليس ترفاً فكرياً أو ثقافياً، بل هو ضرورة ولا سيما في عصرنا الحاضر، وهو أيضاً لا يأتي ضمن تكتيكات السياسة، بل في سياق التفاعل الحضاري الذي هو سنّة إلهية كونية وفي إطار صناعة السلم العالمي الذي يهم الجميع ويطمح إليه المصلحون من كل العالم. وهو - إذاً - يحتاج إلى استجلاء مفهومه، واستطلاع آفاقه، والبحث في مكنوناته ومكوِّناته. ولفهم الحوار، ينبغي أن يفهم على أنه ليس أسلوباً إجرائياً يُتخذ عند الحاجة أو عند مناورة ((ما))، بل هو قيمة من القيم الكريمة، له مضمونه وآدابه وله أهدافه، وهو - أيضاً - قيمة مستثمرة تخدم القيم الأخرى، فقيمة مثل العدل أو الحكمة أو التسامح أو التعاون الإيجابي، لا يمكن أن تتحقق وتتفاعل على أرض الواقع دون أن يكون ثَمَّ حوار بناء وهادف يقيم روابطها ويشد من علاقاتها سواء في النطاق المحلي أو العالمي. ومفهوم الحوار يتناول تبادل الرأي في قضية ((ما)) بين طرفين وأكثر، والتفاهم في القضايا المشتركة، ومآلاته تحقيق غاية ما يمكن من الصلاح لا رفع الفساد بالكلية فإن هذا ممتنع في الطبيعة الإنسانية كما يُعبر عن ذلك ابن تيمية. ولئن كان الحوار بين الإنسان والإنسان مهماً ويُدعى إليه في كل العصور، فإنه في عصرنا الحالي أكثر أهمية ودواعيه أكثر مضاعفة، نظراً لما يحمل هذا العصر من مشاكل وإشكالات، وقضايا وهموم، واختلافات وحروب، وتقانات وعلوم، وأجناس وكثرة سكان. وقاعدتنا - نحن المسلمين - التي نؤسس منها للحوار عدداً من النصوص الشرعية الكريمة، التي لو كانت عند غيرنا لاتخذوها شعاراً يفاخرون بها الأمم، وذلك مثل قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}.. إن هذه الآية القرآنية الكريمة تُعتبر فاتحة للعلاقات البشرية، بل تصلح أن تكون النص الأول والأكبر والأهم في ميثاق ينظم هذه العلاقات، ومنها تعرف: أن الله تعالى لم يخلق البشر ليكونوا عزين - أي جماعات متفرقة - وإنما خلقهم ومايز بينهم في التكوين واللون والجنس ومقدرات الحياة واختلاف اللغات والحضارات، ليكوِّنوا رابطة التعارف، تنتقل عبرها العلوم والخبرات والتجارات والاستشارات وغير ذلك مما تظله المعرفة وتحمله المصلحة. وعند التفصيل: يمكن أن تجد ألف سبب للتمكين للحوار الهادف المنتج في زمن يوجد أكثر من ألف وسيلة للتواصل والتعارف، فمن ذلك: 1- الفكر: إن من طبيعة البشر اختلافهم في الفكر، بل وفي التفكير باعتباره طريقاً إلى تكوين الفكر، والله سبحانه وتعالى يقول في التنزيل: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}. وشاعر العربية أبو الطيب المتنبي يقول: تخالف الناس حتى لا اتفاق لهم إلا على شجب والخلف في الشجب فقيل تخلص نفس المرء سالمة وقيل تشرك جسم المرء في العطب ويُلاحظ أن الشاعر بالغ في اختلاف الناس، إذا لم يبق لهم شيئاً يتفقون عليه! وهذا الاختلاف - في الحقيقة - لا سبيل إلى رفعه قدراً كما هو الواقع، ولا شرعاً بنص القرآن الكريم على وقوعه واستمراره، إنما السبيل في طريقة التعامل معه، وهذا ما توجه إليه الإسلام في نصوص كثيرة، وأوجد بسبب هذا الفقه الحضاري حضارة رائدة تسع الناس جميعاً، وتعطي كلاً منهم قدراً من الإصلاح بحسب استعداده وقبوله. إن من يقرأ خريطة الأفكار والمفاهيم حول العالم، ليدرك كم هي ألوان وأشكال، ثم ليتبصر مدى تأثيرها في الأفراد والجماعات، وأنها في الكثير الغالب هي من تحرك القوى نحو السلم والحرب والقتال والتعايش، ولذلك فالتفاهم بالتي هي أحسن للأخذ بالعالم نحو السلم والخير والرحمة هو من أهم مقاصد هذا الدين، وهو يحبط مخطط كثير من الأشرار الذين يهدفون إلى تحقيق منافعهم الشخصية الضيقة أو العنصرية البغيضة، وإن حلَّ بالعالم الدمار كما قال سبحانه وتعالى: {كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}. 2- الاجتماع: ندرك كم أصبح البشر يتأثر بعضهم ببعض في كثير من العادات والتقاليد، فزي اللباس - مثلاً - راح متشابهاً بين كثير من الناس في مختلف البلدان، وعادات الطعام - أيضاً - تقاربت كثيراً بين الناس من خلال تأثير سلسلة من المطاعم القارية. بيد أن هذا لا يسوِّغ سيطرة ثقافة على أخرى، أو أن يعمم أسلوب حياة أمة على جميع أساليب حيوات الشعوب، إذ إن ذلك كما أنه غير ممكن قدراً، فهو بخلاف حكمة الله عز وجل في قوله: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}. ويلاحظ صيغة التفاعل في قوله «لتعارفوا» التي تقتضي المشاركة والتفاعل بين الطرفين أو الأطراف من الأمم، يقول العقاد عن هذه الحال في كتابه «دراسة في المذاهب الأدبية والاجتماعية»: (فاتساع العلاقات العالمية قد صاحبته الدعوات التي ترمي إلى تطبيق النظم الاجتماعية على العالم كلِّه، ولا تقنع بانحصارها في وطن واحد). وعلى مدرجته يحلِّل ويعالج محمود شاكر في كتابته «رسالة في الطريق إلى ثقافتنا» الدعوات التي ترمي إلى تعميم المذاهب الفكرية بتجلياتها الاجتماعية فيكتب: (فالثقافات متعددة بتعدد الملل، ومتميزة بتميز الملل، ولكل ثقافة أسلوب في التفكير والنظر والاستدلال منتزع من الدين الذين تدين به لا محالة، فالثقافات المتباينة تتحاور وتتناظر وتتناقش لكن لا تتداخل تداخلاً يفضي إلى الامتزاج البتة، ولا يأخذ بعضها عن بعضٍ شيئاً إلا بعد عرضها على أسلوبها في التفكير والنظر والاستدلال). إنَّ العالم مدعو - في هذا الوقت الذي بات فيه أقرب إلى بعضه بعضاً من أي وقت سابق - إلى أن ينظم علاقاته في إطار من الحوار الهادئ حتى لا تتحول نعمة ما استحدثته التقنية من وسائل الاتصال والتواصل إلى نقمة، لأنه إن لم يحصل التفاهم في إطار الحوار فسيكون هذا القرب وسيلة احتكاك وتنازع. إن أسلوب التعارف الذي يدعو إليه القرآن الكريم هو النهج الوسط بين الجافي الذي يدعو إلى الانكفاء على الذات ومقاطعة الآخرين، وبين الغالي الذي يدعو إلى تعميم مذهب اجتماعي وأسلوب حياة في العالم كله. 3- المعرفة والتقنية: إن حصيلة المعرفة - الآن - هي نتاج طويل من حلقات تناقلتها حضارات الأمم والشعوب قرناً تلو قرن، وإذا كنا ونحن في طور النهضة في حاجة إلى استيراد المعرفة وتوطين التقنية، فإن ذلك يدعونا - وبإلحاح - إلى أن نجري الحوار العميق والهادئ مع منتجي المعرفة ومصنعي التقنية، وليس صحيحاً أن ثمَّ مؤامرة تعيقنا عن اكتسابهما، فاليابان مثلاً قد استفادت من الغرب ثم نافستهم في منتجاتهم وهي للتو قد خرجت مهزومة من حرب معهم، والصين الشيوعي النِّد التقليدي للرأسمالية قد أخذ - أيضاً - من خبراتهم ومعارفهم حتى ضايقهم في مجالاتهم بمجرد أن قرر الانفتاح نحو العالم الآخر، ويُقال نفس الشيء عن عدد من الدول، والمملكة - ولله الحمد - تحقق تقدماً كبيراً في مجالات عديدة ولها تجربتها الرائدة، ولهذا فقد آن الأوان أن نتواصل معرفياً، ولا يكون موقفنا المستهلك المعرفي، بل المجادل المعرفي المتحاور حولها، ولا سيما في هذا الوقت الذي بدا واضحاً أن المعرفة قد انطلقت سريعة حتى لتأتي لحظات تتخوف أن يتحول المكسب المعرفي إلى ماردٍ لا نستطيع السيطرة عليه، وتبدت قضايا عديد في العلم يتجاذبها طرفان، طرف يرى فيها تعدياً على البشرية، وإخلالاً بقوانين الوجود، وطرف آخر يرى أن فيها فتحاً علمياً ربما يفيد، كما في قضية استيلاد أجنة مهجنة، بمعنى أنها تأتي من مزج مكونات بشرية وحيوانية. إن ذلك يدعونا إلى أن نتبنى حوارات كثيرة حول العلم والمعرفة مع إدراكنا أن الإبداع العلمي لا يمكن أن يتقدم بقيود تعيقه بيد أن ذلك لا يمنع من إجراء هذه الحوارات حول قضاياه وآفاقه حتى لا ينحرف عن هدفه ومبتغاه في خدمة الإنسان، فإن العلم ليس مقصوداً لذاته وإنما لما يحققه من مصلحة، وفي هذا السياق يدعو العالم شروود رولاند - الذي فاز بجائزة نوبل للكيمياء عام 1995م عن اكتشافه المواد الكربونية المفلورة التي تسبب تآكل طبقة الأوزون - يدعو إلى ما يعتقده (من أن العلم شيء تحفه المخاطر بصورة دائمة، وأنه يجب التفكير في الموازنة بين الخطر وضرورات التقدم كشيء لا مفر منه) وفي ذات الموضوع يشدد العالم السويسري رشارد أرنست - الفائز بجائزة نوبل للكيمياء عام 1991م - على أهمية أن يُعطى العلماء آفاقاً للتفكير ليعرفوا مدى ما يمكن أن يحدثه العلم من تغيير فيقول: (يجب أن يُعطى العلماء أدوات تفكير لتساعدهم على رؤية الصورة الكبيرة للأشياء كي يفهموا الطريقة التي يغير فيها العلم العالم، وخصوصاً عندما يتعاملون مع أشياء جذرية مثل الذرة وقواها، وكذلك الجينات وعناصر الوراثة التي تقف في الأساس من كل الظواهر الحية في كوكبنا.. يجب أن يدرك العلماء أهمية التغيير الذي يساهمون فيه كي يدفعوه في الاتجاه الذي يفيد الإنسانية ويساهم في حلِّ معضلاتها ومعاناتها). إن هذا النقل يجلي آماداً وآفاقاً يمكن أن تكون مدارات للحوار حول قضايا علمية تهم الإنسانية كافة. 4- الاقتصاد: كان الاقتصاد وسيظل سبباً للتواصل بين البشر، وإن اختلفت أعراقهم وأديانهم، بل وإن تباعدت ديارهم وأوطانهم، وهذا - الآن - واضح في عصرنا بسبب المواصلات والاتصالات والشحن والنقل، لكنه - أيضاً - كان واضحاً فيما تقدم من عصور حيث الجمل والسفينة الشراعية كما في سورة قريش. فإذاً كيف يكون الحال - الآن - في هذا العصر الذي تداخلت فيه الشعوب، وراح بعضها يعمل عند بعض، ومئات المليارات تحوّل من بلد إلى بلد بسبب الأيدي العاملة الأجنبية. والمشهد الاقتصادي المتداخل لا يقف عند هذا الحد، فمن المشاهد الاقتصادية في هذا العصر أن الدول التي جرَّبت إستراتيجية الاكتفاء الذاتي اكتشفت أن هذا المبدأ فشل ولم ينجح، وأن التجارة وتبادل السلع هي التي تغني جميع الأمم وترفع مستوى معيشة كل شخص، وهذا يُذكِّر بمبدأ اقتصادي جلاه وأبداه آدم سميث في كتابه «ثروة الأمم» وهو ما أطلق عليه: «اليد الخفية» يقول عنه: (إن في سعي الفرد لتحقيق مصلحته الشخصية التي تقوده وكأنها يد خفية، يتحقق الخير الأفضل للجميع) ويجد آدم سميث في هذا تناغماً ما بين المصلحة الخاصة والعامة. وأضيف: أن هذه اليد الخفية كما أنها تصدق على الأفراد فهي أيضاً تصدق على الأمم، فكل أمة أو شعب قد أجادت وعرفت بصناعة معينة، وهكذا هي تستفيد من بعضها البعض، ثم هي وبهذه الطريقة تتبادل وتتكامل. إن الشركات العالمية وبالأخص الشركات متعددة الجنسيات قد حلت محل الإمبراطوريات التي لا تغيب عنها الشمس، وبعض الشركات تدير مئات الآلاف من الموظفين والعاملين الذي ينتشرون في دول كثيرة من جنسيات متعددة. وهذه الشركات والاقتصاد العالمي بعمومه يحكمه نظم وقواعد، ومن ذلك أنه منظم بثلاثة أسئلة، وهي: أي؟ وكيف؟ ولمن؟ ومعنى ذلك: أي السلع ننتج؟ وكيف ننتجها؟ ولمن ننتجها؟ وهذه الأسئلة وبخاصة الأخير منها يدل على أنَّ العالم بات أكثر ترابطاً، وأن مصلحته - الآن - أكثر اشتراكاً، وتعني أن بعضه يتأثر ببعض إيجاباً وسلباً، وكل ذلك يؤكد أن العالم محتاج إلى أن يتحاور ويتفاهم أكثر. 5- الإعلام: لقد كان الإعلام وإلى وقت قريب مقتصراً ومختصراً في وسيلة أو وسيلتين كالصحافة وقنوات التلفزة المحلية، لكنه في عصرنا توسع بلا حدود في فضاء مفتوح لا يعرف رقيباً ولا حسيباً، وأصبح الإعلام ولم يمس فنوناً وأشكالاً وتجليات كثيرة، ويكفي في ذلك التلفزة التي أطلقت لأجلها الأقمار الصناعية لتبث آلاف القنوات بمختلف الأشكال والأغراض والعروض، ثم عالم النت الذي ذهب يزاحم العوالم الإعلامية بالمنكبين، بل ويتطاول عليها بسرعة القدمين، حتى وسيلة الاتصال «الهاتف» الذي هو في الأصل لتلبية غرض الاتصال فقط، دخل في مضمار الإعلام والدعاية والإعلان. إن هذا الإعلام بهذا الغنى والثراء والتجلي والإبداع هو سبب أكيد - أيضاً - من أسباب الحوار وآفاقه، باعتباره وسيلة أولى من وسائل التواصل، فالفكرة التي يريد أن يقولها إنسان لآخر يستطيع أن يمررها بسهولة وربما بجاذبية - أيضاً - عبر إحدى وسائل الإعلام. لكن الحقيقة التي تستعلن لنا؛ أن الحوار عبر الإعلام لم يكن متكافئاً بل وربما لم يكن موجوداً؛ بسبب أن آلة إعلام البلدان المتقدمة أعلى مهنية، وأعمق تجربة، وأكثر ثراء، فقد أثرت بفكرها وفلسفتها وأخلاقها على مناطق مختلفة من العالم، وتخوفت لأجل ذلك كثير من المجتمعات الشرقية من تأثر أجيالها بهذا الإعلام ولا سيما فيما يتصل بالأسرة. وهذا يدعونا - نحن المسلمين - إلى الاهتمام البالغ بالتجربة الإعلامية وأن يستثمر فيه وله، وأن نكون حقاً مبدعين لا مقلدين، إذ من الملاحظ أنه ومع الانفتاح الإعلامي العربي فإنه قد بدأ في صورة تقليدية واستهلاكية، فمن جانب الفكر والمضمون لا إبداع فيه ولا تميز ولا يظهر فيه أثر الشخصية، وهو - أيضاً - في جانب كبير منه استهلاكي يستورد الأنماط والبرامج الأجنبية، ويستنسخها في صورتها الإعلامية. إن الإعلام بمختلف أنماطه ينبغي أن يُجرى حوله حوارات كثيرة، بحيث يرتقي بمضمونه وأهدافه على المستوى - لا العربي فحسب - بل وعلى المستوى العالمي؛ لأن الإعلام عند سمو أهدافه سيكون من أهم الأسباب لتفاهم البشر، وتحقيق مصالحهم المشتركة، وبالضد إذا انحرفت أهدافه لأي سبب كان أيديولوجياً أو تجارياً بحتاً أو غير ذلك، فيُعد من أخطر الأسباب لتدمير البشر بعضهم بعضاً. 6- الأدب: الكلمة العذبة، والتصوير الرائع، والخيال الخصب في مقال أو قصيدة أو رواية أو غير ذلك، هذا هو الأدب الذي يؤثر في السامعين، وربما يقلق القارئين وأحياناً يقلقلهم عن أماكنهم. وقد يكون غريباً أن يعرض الأدب كسبب من أسباب الحوار ومن ثم كأفق من آفاقه، بيد أن الغرابة تتلاشى إذا تذكرنا أن هدف الحوار هو إشاعة التفاهم واقتراح التعاون على أسس المبادئ والمصالح المشتركة، وإذا كان هذا هو الهدف؛ فإن الأدب بنصوصه وفنونه مجال رحب لصناعة هذا التفاهم أو المساعدة عليه. وإذ مهدنا بما تقدم؛ فإنه يسجل - وللأسف - أن كثيراً من نصوص الأدب القديم والحديث تسهم في نشر العدائية على نحو متزايد ومتعمد، كما في بعض الروايات التي تنتقص الآخرين وتشوه مبادئهم ورموزهم المحترمة لديهم، كما في قصيدة وليم دينبار بعنوان: «السبع الموبقات» وكما في مسرحية «تيمور لنك» للكاتب كريستوفر مارلو، وغيرهما. يقول الدكتور عبد الله الجاسر: (الفنون الأدبية هي من أهم وسائل التحريض العدائي بين الأديان، وهي كذلك من أهم وسائل التعايش بين الأديان، وقد قدمت في الجانبين السلبي والإيجابي). وبعد: فإنه يوجد أكثر من سبب وسبب نتوصل بها إلى آفاق لقيام حوار جاد وهادف وبنَّاء بين الإنسان والإنسان في الغرب والشرق والشمال والجنوب، ففي كل واحد - كما يقول ابن تيمية: (ما يقتضي معرفته بالحق ومحبته له). إن الحضارة تئن من وطئات كثيرة، وإن العالم يختنق من أوبئة عديدة، وإن الحوار بين الناس كافة على نهج معتدل وعادل واجب لا حيدة عنه إن أرادت البشرية الخلاص من ورطاتها المتكاثرة والمتوالدة. وفي هذا المنظور فإن توجيه خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - بإنشاء هذا المركز يجب أن تتكاتف وتتكاثف حوله الجهود ليكون لا أثراً بل مؤثراً، ولا برجاً شاهقاً في السماء بل ثقافة سباحة عبر المكان عابرة بمر الزمان، وهي إذ تأخذ حظها وانطلاقتها المباركة من مهبط الوحي وأرض الرسالة التي هي رحمة للعالمين فإن ذلك فأل خير يدعو للنجاح وينادى عليه والله الهادي إلى سواء الصراط. الأمين العام لهيئة كبار العلماء