ولوعة حزن أوجع القلب داخله جميل جدا أن يعيش المرء في هذه الدنيا محبا ومحبوبا لدى إخوته وأقرانه، ومع أسرته ومحبيه متصفا باحترامهم، ومتمتعا بالآداب الحسنة، ولين الجانب طيب المعشر، فإن الأذان تطرب لسماع حديثه أو التحدث عنه، والألسن تستعذب ذكره في كل مناسبة..، فإن خطر على البال خياله وشخصه سر وإن بعد مكانه، وهذا من نعم المولى على كل إنسان يتصف بهذه الصفات الحميدة، ونحمد الله أن هذه الصفات مجتمعة من سمات الصديق الشاعر الفكه الأستاذ الفاضل/ محمد بن ضيف الله الوقداني (أبو عادل) وشهرته أبو دلامة الذي رحل عنا يوم عيد الفطر المبارك لهذا العام 1432ه، فبينما كنت مسرورا بحلول العيد السعيد مع مجموعة من الأصدقاء والمعارف نتبادل التهاني والتبريكات إذا برنين الهاتف يحمل نبأ وفاة علم عال من أعلام الشعر الفصيح بمدينة الطائف أولى المصائف الجميلة، حيث تكرر إعلامي وتعزيتي في وفاة صديقنا الأستاذ/ محمد بن ضيف الله الوقداني من قبل الزملاء الأفاضل: محمد وصل الله الثبيتي، عبدالله بن عبدالرحمن السلامة، عبدالرحمن بن سعود العجاجي، وكل أولئك الأحباب من زملاء الدراسة بدار التوحيد، وقد حزنت على رحيله وبعده عن أحبابه وزملائه حيث كان علماً بارزا بالساحة الأدبية، وكان دوما يتغنى بمحضنه - أم المدارس دار التوحيد - متذكرا أيام الدراسة الحلوة بها والشمل جامع له مع زملائه في تلقي العلم وحلو رضابه على أيدي مشايخه النخبة المختارة من فطاحل علماء الأزهر الذي عنى الشاعر أمثالهم بقوله: قم في فم الدنيا وحي الأزهرا وانثر على سمع الزمان الجوهرا ويحسن بي أن أذكر بعض أبيات القصيدة التي قالها بمناسبة الحفل بمرور خمسين عاما على إنشاء دار التوحيد بالطائف قالها متحسرا على إنهاء الدراسة بها، وإسدال ستار النسيان عليها: الدار قد ودعت عهدا به افتخرت ودق في نعشها المحمول مسمار في ما مضى كنت لا أحصي محاسنها ويشرح الصدر آداب وأسمار خمسون عاما مضت والدار زاخرة تفيض علما ونبع العلم زخار ويقول الآخر: خمسون عاما قد تولت كأنها حلوم تقضت أو بروق خواطف ولقد ولد الأستاذ الكبير/ محمد بن ضيف الله الوقداني (أبو دلامة) بمدينة الطائف وعاش في ربوعها بين أحضان والديه ورفاق دربه من أطفال جيله، ولقد أثرت في حياته الشعرية هاتيك المناظر الجميلة مناظر الطبيعة الخلابة والبساتين الحافلة بأزهار الورود الفواحة، وأنواع الفواكه لذيذة الطعم والمأكل الذي عاش على مقربة منها، ومن أبرز البساتين بساتين المثناة - آنذاك - المتربعة على حافات وادي وج قبالة مسجد (عداس أو المدهون) الأثري ومنارته العالية التي تعتبر من المعالم البارزة هناك فلم تؤثر فيها عوامل التعرية ولا هوج الرياح حتى زمننا الحاضر، ولقد تلقى تعليمه بالمرحلة الابتدائية بالمدرسة السعودية الواقعة عند باب الريع ثم أكملها بالمدرسة العزيزية بنفس المدينة، بعد ذلك واصل الدراسة بدار التوحيد حتى حصل على الشهادة الثانوية بها، فهو يعتبر من أعمدة النادي الأدبي العملاق فترة دراسته بالدار 1377-1381-1382ه كما ذكر ذلك لي سكرتير النادي الأستاذ/ عبدالرحمن بن سعود العجاجي ومحمد بن وصل الله الثبيتي، علما أن أول من أسس نادي دار التوحيد الشيخ/ عبدالله بن محمد بن خميس - رحمه الله - عام 1366ه هو وزملاؤه الأفاضل الذين رحل معظمهم إلى - رحمة الله -، والحقيقة أن منبر نادي الدار تعاقب على إحيائه واستمراره أفواج متتابعة من الطلاب والمبدعين حتى انطوى فيء الدار، فقد خرج العشرات من العلماء والأدباء والخطباء، وطيب الله ثرى الملك عبدالعزيز المؤسس لدار التوحيد عام/ 364-1415ه ، ورعاية أبنائه البررة لها من بعده - تغمدهم الله بواسع رحمته -، ثم اتجه أبو عادل إلى كلية الشريعة واللغة العربية في مكةالمكرمة حتى نال الشهادة العالية من كلية اللغة العربية بها 1385-1386ه فعمل مدرسا بالمرحلتين المتوسطة والثانوية، ثم رشح للعمل موجها و مشرفاً تربوياً مدة تزيد على عشرين عاماً حتى تقاعد، وكان متمكناً من زمام الفصاحة في مادته مرناً في تعامله مع المدرسين مخلصا في توجيههم يشعرهم أنه معين لهم لا مفتشا لإبعاد الرهبة عن بعض منهم وخاصة الجدد حديثي التدريس، وهذا يدل على نضجه وحنكته - يرحمه الله - وله من المؤلفات ديوان شعر صدر من النادي الأدبي بالطائف عام 1418ه بعنوان (صدى الأيام) يحتضن بين دفتيه مجموعة من القصائد جزلة الأسلوب، ومجموعات من الشعر الفكاهي فهو متفان في حب دار التوحيد تفانيا ملحوظا، كما هو واضح في هذين البيتين مخاطاً للدار: يا دار إن دارت الأيام دورتها إنا على العهد في صدق المواعيد فكل من عاش منا سوف يذكرها ولن نبالي بأشباه الجلاميد!! ولسان حالي يردد هذا البيت: ومهما أنسى من شيء تولى فإني ذاكر (دار التوحيد) وكان لنا معه بعض الذكريات الجميلة وتبادل الزيارات بيننا وبينه وزميله الأستاذ/ محمد بن وصل الله الثبيتي، كما جرى بيننا وبينهما مداعبة خفيفة تخييلية حيث هاتفاني وهما قادمان من الطائف، وعلى مقربة من حريملاء قائلين سنتناول طعام الغداء عندك، ثم نواصل السير إلى الرياض لحضور مأدبة العشاء التي يقيمها الأستاذ/ عبدالرحمن بن سعود العجاجي بأحد المتنزهات الرحبة شمال الرياض لجميع الطلاب الذين درسوا بدار التوحيد، وبعده بعام الأستاذ/ موسى بن محمد السليم ثم الأستاذ/ صبحي الحارثي..، فقلت أهلا وسهلا سأذبح لكما جملاً سميناً، فما كان مني إلى أن ذهبت لأحد الجزارين حول منزلنا فاستعرت منه رأس جمل مؤقتاً فوضعته على عتبة الباب الخارجي كي يرياه عند حضورهما، فقد ساورهما الشك في البداية! وهكذا تجري بعض المداعبات الخفيفة مع الزملاء، فالذكريات مع (أبوعادل) ومع طلاب الدار لا يمحوها ماح مدى عمري- رحمه الله رحمة واسعة - وألهم ذويه وابنه عادل وشقيقاته وأم عادل ومحبيه الصبر والسلوان. (*) حريملاء/ فاكس 015260802