صدق الشاعر في قوله. وما ينطبق على الفرد ينسحب بالضرورة على المجتمع وعلى الدولة. والانطباق في هذا السياق طبيعي جداً، فالفرد هو أساس كل مجتمع وكل دولة. ويقتضي هذا السياق أن يحتكم العقلاء إلى السلوك الفردي في تفسير سلوك المجتمعات والدول.. فالفرد أنموذج والمجتمع أو الدولة حالة ينسجها أفراده. وعلى ضوء هذا الربط تُبنى النظرية الاقتصادية التي تفسر سلوك الإنسان. هذه حقيقة علمية وليست سفسطة فكرية يُقصد منها التلاعب بالألفاظ لخدمة الفكرة وبناء النظرية. وإدراك هذه الحقيقة هو شرط أساسي لفهم قضايا الاقتصاد المعاصرة خاصة تلك التي يمتزج فيها الاقتصاد بالسياسة. فإذا كانت للاقتصاد ضوابط علمية تؤطر نظرياته وتحاول ما أمكن السيطرة على سلوكيات الإنسان بافتراضات محكمة تضعه ضمن موازين العقل والحكمة المتعارف عليها.. إذا كان للاقتصاد ذلك، فإن السياسة قد يصعب تحجيمها وفكِّها من عقال الجدل والتلوُّن والتطرف. فالسياسة فن والاقتصاد علم. وعلم الاقتصاد يضع نظرياته وفق معطيات محددة تحكم مجال تطبيقها. وعلم الاقتصاد، من هذا المنظور، يعطيك مرتكزاً صلباً لتفسير الواقع واستخلاص رؤية أكثر شفافية وأقدر حنكة على مواجهة الواقع واستقراء الأحداث واستشراف المستقبل. وفي هذا التفسير لمسات فنية يتجسد من خلالها إبداع الإنسان وتفوقه وتفاوت قدراته وإمكاناته. فيكون تطبيق علم الاقتصاد فن يربطه بالسياسة ويلقى عليه أوزارها ويغوص به في وحلها ويدخله في دهاليزها، فيضعف أحدهما الآخر وينجرُّ الاثنان في غياهب السلوكيات الإنسانية التي قد تحتكم للمنطق والعقل، وقد تبعد عنه كما بَعُدَ المشرق عن المغرب. ومع هذا التباعد يوهن الربط بين العلم والفن وتختلط الأبعاد وتتنافر الأطراف وتزول لُحمة البناء وينفك تماسكه. وأكثر فوارق التباين يكون في مفهوم الالتزام ومضمونه. أن تلتزم بفرضية النظرية الاقتصادية هو شرط أساسي وضروري لأن تنطبق عليك. ولكل نظرية ناجحة فرضياتها. والافتراض ضرورة. فالنظرية الاقتصادية تتعامل مع الإنسان، وهو كائن متغير. وتثبيت نزعة التغير الفطرية في الإنسان هو نهج علمي لتأطير سلوكه وفق محددات عقلانية متواترة. والإنسان الفرد هو الإنسان المجتمع والإنسان الدولة. وكل تكوين جماعي يُبنى من مفرده كما العقد من حباته والسيل من قطرات المطر والنار من مستصغر الشرر. وفي الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله. وصلاح الفرد صلاح للمجتمع وللدولة. وإذا اجتمع فريق على رأي، صَلُحَ أمرهم وقويت شوكتهم وعم الخير عليهم ببركة الجماعة وقوة الاتحاد. هذه فطرة بشرية قد تبدو بدهية أو ساذجة أو قد يعتبرها البعض من مسلمات الأمور، وهي وإن كانت كذلك إلاّ أنها تمتاز في الوقت نفسه بنهجها العلمي الذي أخذ به علم الاقتصاد في بناء التكتلات الاقتصادية. والاقتصاد فرد ومجتمع ودولة. ولكل تكوين ضوابطه ومرتكزاته الخاصة به التي لا تتعارض في المبدأ مع السلوك السوي في البناء النظري المؤطر بالافتراضات والشروط. ونجاح التكتل الاقتصادي يعتمد على التزام أطرافه ببنود الاتفاق. والالتزام يعني الحصول على مكاسب جماعية تعطي للفرد ما لا يمكنه أن يحصل عليه من مكاسب في الأجل الطويل بدونه. والأجل الطويل هو المحك العملي لأي سياسة اقتصادية سليمة. المكاسب العاجلة أو المؤقتة قد لا تدوم وقد تكون طُعماً يؤدي إلى الهلاك. العبرة بالأجل الطويل، بمن يكسب دائماً وليس بمن يكسب الآن فقط. * رئيس دار الدراسات الاقتصادية - الرياض.