يُمثل البحث العلمي نواة المجتمع، وحجر الزاوية في نهضة الأمة، ومطلبًا أساسًا للتميز في مجالات العلم المختلفة. بل لا أُبالغ إن قلت: إن البحث العلمي يُعدُّ ركنًا مهمًا من أركان المعرفة الإنسانية، وبدونه لن ترقى أمتنا إلى مستوى الحضارات، ومصاف الدول المتقدمة. كتبت مرة عن "أزمة البحث العلمي.. ما الحل؟"، وأكّدت فيه على: إن البحث العلمي في العالم العربي، ما زال دون المستوى المأمول، وأن المؤسسات البحثية لا تعمل بالكفاءة المطلوبة منها. وبيّنت: إن البحث العلمي لم يُعدُّ رفاهية أكاديمية يُمارسه صاحبه فحسب، بل إن أثره يتعدى ذلك، باعتباره أحد مفاتيح تطوير المجتمعات الإنسانية المعاصرة، وتحديد مسارات المستقبل، وبناء القاعدة الإنتاجية. وهو ما نلحظه في دول أخرى تطوّرت فيها آليات البحث العلمي، وأغراضه، وأساليبه، وشيّدت نهضتها على مخرجات البحوث العلمية. فالإنتاج الفكري، والتقدم العلمي، يستدعي أن نكون، أو لا نكون. على أي حال، فإن شخصية من أكتب عنه، جمع تراثًا أدبيًا ضخمًا، وذلك عن طريق التحقيق، والجمع، والفهرسة، مع حرصه الشديد بالبعد عن الازدواجية، أو التكرار، مما أسهم في إثراء المعرفة المتخصصة، -إضافة- إلى نشاطه في حركة تأليف الكتب من خلال الخطط المرحلية؛ لاحتياجات القسم الأكاديمي الذي كان ينتمي إليه. تظهر همّة الاستاذ الدكتور عبد العزيز بن محمد الفيصل في الاستقصاء، ونفسُهُ العلمي في البحث، والتأليف، حيث يتضح ذلك من خلال مؤلفاته، وتصانيفه، بعد أن أصبح متمرسًا على تقنيات منهج البحث العلمي، والنقد فيها، مدفوعًا برغبة ذاتية؛ ليكشف كنوزه، ودرره المطمورة في خزائن الكتب. فكان فريدًا من حيث طريقة المعالجة، والنتائج النهائية لمخرجات تلك البحوث، والمؤلفات التي تُعدُّ بحق إثراءً للمعرفة البشرية. في آخر لقاء صحفي معه في مجلة اليمامة، العدد "2134"، أجراه الاستاذ عبد العزيز النصافي، وصفه بالأديب، والشاعر. وأشار إلى تخصصه في دراسة اللغة العربية، وحصوله على الماجستير، والدكتوراه من الأزهر الشريف. ليس هذا فحسب، إذ استطاع استاذنا أن يكون أول عميد لعمادة الدراسات العليا بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، رغم ما واجهه من مشكلات إدارية، وتخطيطية، وعلمية، فقد كانت العمادة بدون مقر، ولا موظفين، ولا وكيل، وكان عليه أن يختار المقر، فلم يجده، فشرع في اختيار مجلس العمادة، والوكيل، والموظفين، وكان يقوم بكل شيء، ويعمل الليل مع النهار، ولم يغادر العمادة إلا وقد استقام الأمر فيها، كما حدّث عن نفسه. وعندما سُئل عن أهم مؤلفاته، أجاب بأنها تشمل ما يلي: 1- شعراء بني مشير في الجاهلية والإسلام حتى آخر العصر الأموي، في جزءين، طُبع بمطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، القاهرة، سنة: 1398ه - 1978م. 2- شعراء بني عقيل وشعرهم في الجاهلية والإسلام حتى آخر العصر الأموي، -جمعًا وتحقيقًا ودراسةً-، في جزءين، طُبع بشركة العبيكان للطباعة والنشر، الرياض: 1408ه - 1987م. 3 - شعر بني عبس في الجاهلية والإسلام حتى آخر العصر الأموي، -جمعًا وتحقيقًا ودراسةً-، في جزءين، مطابع الفرزدق التجارية، الرياض، الطبعة الأولى: 1411ه - 1990م، والطبعة الثانية: 1414ه - 1994م. 4 - ديوان الصمة بن عبد الله القشيري، جمع وتحقيق نشر النادي الأدبي بالرياض، عام: 1401ه - 1981م، والطبعة الثانية، طبع بمطابع الحميضي في الرياض، عام: 1428ه - 2007م. 5 - قضايا ودراسات نقدية، طُبع بمطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، القاهرة، الطبعة الأولى، عام: 1400ه - 1979م، والطبعة الثانية، مطابع حنيفة، الرياض، عام: 1401ه - 1980م. وهذا الكتاب يضم قضية الطبقات، وقضية اللفظ والمعنى، وقضية السرقات، ويتناول بالدراسة النقد في العصر الجاهلي، وفي عصر صدر الإسلام، وعصر بني أمية، والنقد في القرن الثالث، والرابع، كما يتناول منهاج النقد الأدبي -المنهج الفني، والمنهج التاريخي، والمنهج النفسي، والمنهج المتكامل-، وقد ألفت الكتاب؛ لحاجة طلاب جامعاتنا إلى النقد القديم. 6 - من غريب الألفاظ المستعمل في قلب جزيرة العرب، مطابع الفرزدق التجارية، الرياض، عام: 1414ه - 1993م. 7 - مع التجديد والتقليد في الشعر العربي، مطابع الفرزدق التجارية، الرياض، عام: 1414ه - 1993م. 8 - وقفات على الاتجاه الإسلامي في الشعر العربي، مطابع الفرزدق التجارية، الرياض، عام: 1414ه - 1994م. 9 - عودة سدير "ضمن سلسلة هذه بلادنا"، نشر الرئاسة العامة لرعاية الشباب، مطابع جامعة الملك سعود، الطبعة الأولى، سنة: 1404ه - 1983م، والطبعة الثانية، سنة: 1408ه - 1988م. 10 - الأدب العربي وتاريخه "مقرر"، نشر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، مطابع جامعة الإمام، الرياض، الطبعة الأولى سنة: 1404ه - 1983م. 11 - وطن يعبر القرن، مطابع الفرزدق التجارية، الرياض، عام: 1419ه - 1998م. 12 - المعلقات العشر، في جزءين، مطابع الفرزدق التجارية، الرياض، الطبعة الأولى، عام: 1423ه - 2002م. 13 - شعراء المعلقات العشر، مطابع الفرزدق التجارية، الرياض، الطبعة الأولى، عام: 1423ه - 2002م. 14 - معجم عودة سدير، مطابع الفرزدق التجارية، الرياض، عام: 1424ه - 2003م. 15 - رؤى وآفاق في ثلاثة مجلدات "2500"، مطابع الحميضي، الرياض، عام: 1426ه - 2005م، مجموعة مقالات نُشرت في عمود في صحيفة الجزيرة بالعنوان نفسه على امتداد عشرين عامًا، وهي مقالات أدبية، ونقدية، واجتماعية، وتاريخية، ووصفية، يتوافر فيها صناعة المقال. 16 - قضايا أدبية "محاضرات أُلقيت على طلبة الدكتوراه، مطابع الحميضي، الرياض، عام: 1428ه - 2007م. 17 - ديوان شعر مخطوط، نُشرت بعض قصائده في الصحف، وقرأ صانع هذه القصائد بعضها في ندوات. وحسب علمي، فإن الدكتور عبد العزيز يعمل على كتابين في الوقت الحاضر، الأول: "مصادر الأدب عند ابن خلدون"، والثاني: بدأ فيه منذ سنوات، وكلما شرع في الكتابة، جَدَّ ما يصرف عن العمل فيه، وهو "مناهج تحليل النص الأدبي". تأملت في كلام الدكتور محمد هشام النعسان، عندما تحدث عن الأهداف المعتبرة للبحوث، ومنها: الوصول إلى حكم لحادثة جديدة، لم يبحثها غيره، أو التنبيه على أمر، لم يسبق لأحد أن نبَّه إليه. أو إتمام بحث، لم يتمه منْ بحثه سابقًا أو تفصيل مجمل: الشروح، والحواشي، والتحليلات، والتفسيرات، والبيان لما هو غامض. أو اختصار، وتهذيب ما هو مطوّل: إذ يُستبعد من البحوث ما عسى أن يكون حشوًا، وفضولاً، ومعارف يمكن أن يستغنى عنها في تعليم المبتدئين، وقد شاع هذا قديمًا، ولم يُعدُّ اليوم مقبولاً كبحث. أو جمع متفرق: "النصوص، والوثائق، والأحداث، والمعلومات"، فقد تكون هناك مسائل علمية متفرقة في بطون الكتب موزعة في مصادر، ومراجع مختلفة، وتحتاج إلى بحث، واستقراء دقيقين؛ ليصل الباحث إلى تصور شامل، لما تفرق في صورة قضية واحدة متكاملة الأطراف، والعناصر، وهذا لون من البحث، وإن لم يأت بجديد، لكنه جهد مفيد، مثمر، ييسر للأجيال التالية أن تخطو على أساسه خطوات واسعة. أو تكميل ناقص بحث جانب، وإهمال آخر، أو اهتمام بقضية، وإغفال أخرى. أو إفراز مختلط، كاستقراء تراجم للأعلام، واستخراج تراجم منْ مات في أماكن، ومناطق مختلفة. أو إعادة عرض موضوع قديم بأسلوب جديد. أو أن يكون معقبًا، ومستدركًا للنقائض، وهذا لون من البحث، يعتمد على التعقيب على بحوث سابقة، أو نقض ما فيها من قضايا، أو إصلاح أخطاء وقع فيها مؤلفون سابقون، وكشف ما فيها من زيف، أو تخطئة ما ورد فيها من آراء، واجتهادات. فوجدت أن جهد الدكتور عبد العزيز العلمي، يُمكن أن يتم من خلال كل تلك الغايات السابقة، أو على أقل تقدير أغلبها. إن التصور الكامل لهذا الكم الهائل من الإنتاج، يبدأ من لحظة التفكير، وينتهي بساعة التتويج، وما يكون بين ذلك من تعامل مع المصادر، وتأمل في النصوص، التي تتبع منهج تحليل المضمون، وتأمل المحتوى. وهو -بلا شك- يُعدُّ نوعًا من العصف الذهني، والنشاط المعقد في عقل صاحبنا، -إضافة- إلى توافر قدر كبير من الجدية، والابتكار؛ من أجل طلب المعلومة، والتنقيب عن الحقائق، وتقصيها، والوصول إليها. بل اكتشاف آفاق جديدة من المعرفة، والتتبع لمادتها، وهو ما أنتج هذه البحوث، والمؤلفات -كمًا وكيفًا- وفق المقاييس العلمية، التي تُؤخذ كأحد المعايير في مجال الاعتماد الأكاديمي -إعدادًا وتحريرًا وتوثيقًا ولغةً وإخراجًا-. من جانب آخر، فإن البحث، والدرس، والفكر، هو نوع من نشر الثقافة، والوعي، والمساهمة في تطوير المجتمعات، -ولذا- فإنني أوصي بفرز هذه البحوث، والمؤلفات، وتقديم مقترحات بنتائجها، والعمل بها؛ ليتحقق فائدة حقيقية، وخدمية لهذا التراث العلمي، -إضافة- إلى نشر الإنتاج العلمي على مواقع الإنترنت؛ من أجل توثيق أرشفة محتويات هذا العمل الضخم، وعرضه على محركات البحث العالمية، حتى تتحقق الاستفادة منها بشكل يوفر الوقت، والجهد، والتكاليف. بقي أن أشير إلى: تواضعه العلمي، وتفادي الزهو بقدراته، وهي إحدى أبرز سمات الفيصل، فقد كان ذلك أسلوب تعامله مع الجميع. فالرجل كبير بعلمه، وحسن أخلاقه. وأجمع كل من يعرفه على مكانته العلمية، ودوره الأكاديمي البارز، كباحث شامخ في تخصصه، وتفانيه في خدمة البحث العلمي. أردت في هذه المقالة، تسليط الضوء على دوره العلمي. فعندما يتسع الأفق، وتنمو المدارك، وتتعاظم الخبرات، وهي صفات استاذنا، يكون -حينئذ- قادرًا على جمع المادة العلمية، والتركيز على مجال البحث، وحدوده، حتى وصل إلى أعلى الدرجات العلمية، والمراتب الأكاديمية. وإني إذ انتهي من هذه الكتابة، فلا أقل من الدعوة إلى تكريمه، والتعريف بدوره، لا على مستوى النظرية، بل على مستوى التطبيق، -ولا سيما- وأن الدولة تحرص في تقديرها لعطاءات أمثال هؤلاء، من الذين يمثلون أنموذجًا للنجاح، والعطاء، وحتى يكون التكريم لائقًا بموقع، ومكانة الدكتور عبد العزيز الفيصل، كعالم مربٍ، وصانع للأجيال.