«عين البصيرة» هي التي ترى الأمور على حقائقها، وتنفذ إلى أعماقها، وتستجلي ما وراء ظواهرها من بواطن، فتمنح صاحبها دراية بالأمور، وحسن تقدير للنتائج، كما تمنحه رؤية صحيحة للأحداث تجعله قادراً -بإذن الله- على اتخاذ المواقف المناسبة في الأوقات المناسبة، وتحول بينه وبين أي قول متسرِّع، أو فعل متعجل، قد يُسيء به إلى نفسه من حيث يظن أنه يحسن إليها، وكم من حاكم تورط في مواقف كان سببها الأول هو عدم قدرة عين بصيرته على استجلاء الحقيقة، لضعفها، وقصر نظرها، وعجزها عن الرؤية الصائبة. وقد صوَّر لنا القرآن الكريم هذا الصنف المصاب بعمى البصيرة، أو ضعفها، صورة جلية في قوله تعالى في سورة الكهف: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}. إنها صورة محزنة مؤسفة، فهم ضالون مضلون -حسب التعبير القرآني- ولكنهم يحسبون أنهم مهتدون، وهذه من أبشع الصور التي يكون عليها الإنسان، إن لم تكن أبشعها على الإطلاق، وهذه الحالة هي التي تورد أصحابها موارد الهلاك، وتفضي بهم إلى سوء المصير. وحالة عمى البصيرة ملازمة لحالة الغطرسة والكبرياء، وغفوة الضمير، وانعدام الحس البشري السليم، فهي التي جعلت فرعون يقف من موسى عليه السلام تلك المواقف «المضحكة المبكية» مع أن مؤمن آل فرعون -رضي الله عنه- كان ينبِّهه بين الفينة والأخرى إلى ما هو فيه من السكرة والضلال، ويحاول أن يزيل عن قلبه الغشاوة، ولكن هذا المؤمن الناصح كان يصطدم بصخرة المكابرة والطغيان، وبجدار عمى البصيرة الفاصل، وبتضليل البطانة السيئة التي كانت تزيّن لفرعون ضلاله وظلمه وطغيانه وانحرافه، حتى ألقت به في خضم البحر فأدركه الغرق فاستيقظ متأخراً، وعبَّر عن استيقاظه الذي لا فائدة منه بقوله: {آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} ومعناه تماماً «فهمتكم» ولكن بعد فوات الآوان. إن عين البصيرة لا يمكن أن تكون فاعلة في قلب غافل، رَانَ عليه الظلم، والإثم، والتسلط واحتقار عامة الناس وضعفائهم، بل والتهاون بعلمائهم ومفكريهم وناصيحهم. لقد عمي فرعون عن الحق، وزادته بطانة السوء عمى حتى قال، كما جاء في سورة غافر: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} فكان هذا القول دليلاً حاسماً على استحكام عمى البصيرة في قلبه حتى أصبح يرى ضلاله وانحرافه وظلمه للناس رشاداً، وحتى أصبح يرى إغواءه للناس وإضلالهم هداية في نظره «الأعمى» فالناس جميعاً - ما عدا بطانة فرعون - كانوا على يقين من ضلاله وانحرافه، ولكنهم في نظره على باطل، وهو وحده على «الحق». إن عين البصيرة هي التي تمكِّن الحكَّام من رؤية الأمور على حقائقها، وإن دور التقوى والصلة بالله، والعدل والإنصاف لدور كبير في جلاء عين البصيرة وقوتها، وقدرتها على الإبصار، ويأتي مع ذلك دور البطانة الصالحة التي تجلِّي للحاكم الأمور على حقائقها، ولا تخدعه وتلبِّس عليه من أجل مصالحها، بل هي مرشدة له موجِّهة سفينة حكمه إلى شاطئ النجاة، ويكون الأمر على غير ذلك حينما تكون بطانة الحاكم سيئة، همُّها مصالحها، وأهواؤها، فهي تقوم بدور خطير في انحراف الحاكم عن جادة الصواب، حتى وإن كان ميَّالاً إلى الخير في ذاته. «عين البصيرة» لا يمكن أن تكون فاعلة مؤثرة، إلا إذا نوى الحكام الخير، ورفعوا شعار العدل، وطبقوه في واقع الحياة، وتخلصوا من غشاوة الكبرياء والتعالي، التي تنعدم معها الرؤية الصحيحة فتكون النهاية المؤسفة التي رأينا بعض صورها -رأي العين- لدى بعض الحكام في هذه الحقبة من تاريخ البشرية.