مع إقبال كل صيف تعلو نغمة المطالبة بالسياحة الوطنية وتشجيعها ولاسيما مايصدر من لجان التنشيط السياحي في مصايف المملكة.. إلا ان الملحوظ في هذه النغمة غلبة العاطفة فيها على النظر العقلي البصير بكل أبعاد ومتطلبات العملية السياحية في العصر الحاضر. وسبق ان دار بيني وبين صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان بن عبدالعزيز أمين عام الهيئة العليا للسياحة حديث هاتفي حول هموم السياحة الوطنية وبعض الملحوظات في مجالها. واطلعني سموه خلال حديثه على اهتمام سموه وعناية الهيئة بوضع الأسس والقواعد والتنظيمات التي يرجى منها إفادة السياحة الوطنية وفق الضوابط الشرعية وفي ظل تخطيط علمي مدروس. لذا نشطت عندي الرغبة في الحديث عن السياحة الوطنية وآثرت ان يظهر هذا المقال حين تطوي كل لجنة تنشيط سياحي في مناطق بلادنا الحبيبة خيام نشاطها ليكون الحديث عن سياحتنا الوطنية أدق وأوثق واقعاً وزماناً. في المبتدأ لابد ان أنبه إلى ان كل مسلم عاقل يدرك ان السفر في الاسلام تندرج عليه الأحكام التكليفية، وأن السفر للمعصية مثلاً محرم.. وان السفر لبلاد المسلمين من أجل الترويح عن النفس والتوسعة على العيال مع الالتزام بالضوابط الشرعية جائز لامرية فيه. ولكن الحكم بالعاطفة شيء والحكم بالعقل شيء آخر.. فمواطن هذه البلاد أنعم الله عليه بالأمن والأمان في ظل دولة تحكم بشرع الله.. وفوق هذا افاء الله على معظم أبناء هذه البلاد بوفرة المال.. مما فتح آفاق السياحة أمامهم للترويح عن النفس ولاريب ان السفر وسيلة من وسائل ذلك الترويح كما انه وسيلة للتأمل في آيات الله والتعرف على قدرته البالغة في تدبير الكون وتفضيل بعض الأمكنة على بعض في الخصائص والمظاهر.. وفي كل صيف يُكْثِر الواعظون التحذيرات من السفر إلى الخارج، ويزداد إيراد القصص والحكايات عن الأحوال المشينة لبعض الناس في السفر. وبرغم انه لايمكن اطلاق القول على عواهنه فلا نجعل بعض التصرفات التي تصدر عن بعض المستهترين عند سفرهم إلى الخارج صفة عامة لكل أهل هذه البلاد ودون تفريق بين الغايات من السفر والجهات التي يسافر لها إلا انه في الجانب الآخر لابد من التركيز على السبب الأساس لصدور التصرفات المشينة. ولابد حينئذ من عمل جاد لوقف هدير الاغراءات التي تبثها وسائل الدعاية والإعلانات للسياحة الخارجية في مناطق معروفة بمجونها وانحرافها ولاسيما بالنسبة لصغار السن الذين يسهل التغرير بهم وإغراقهم في الملذات وسوقهم إلى الانحراف مما يهدر طاقات شباب هذه البلاد فيما لايفيد. وهنا تظهر ضرورة اجراء دراسة شرعية مبنية على أسس صحيحة ومعرفة دقيقة بواقع هذا العصر وحالات السفر وأهدافها وتأثيراتها. فالسفر لبلاد المسلمين غير السفر لبلاد الكفار. كما ان ما يحصل من مفاسد في بعض الحالات علاجه الضوابط الشرعية الواجبة عند السفر. ولاريب ان هذه البلاد اختصت من بين بلاد المسلمين بخصوصية دينية حيث تحتضن المقدسات الإسلامية وعلى رأسها الحرمان الشريفان في مكةالمكرمة والمدينة المنورة وبالتالي فإن السياحة فيها أفضل للمسلم في دينه ودنياه. ولكن السفر المباح الملتزم بالضوابط الشرعية ليست له جهة محددة، ولذا فلا مسوغ شرعاً لإطلاق القول بعدم جواز سفر أهل هذه البلاد لغيرها. وبالتالي وجب ان نبحث عن المقومات التي تجعل هذه البلاد مكاناً ملائماً للترويح عن النفس الملتزم بالضوابط الشرعية. والمؤكد ان نجاح السياحة مرهون بمقومات لابد من توافرها في أي مكان يراد له ان يصبح جاذباً للسياح. والمؤكد الآكد هو ان هذه المقومات تختلف باختلاف الغايات من السفر أساساً؛ فالذي يسافر من أجل الفساد مثلاً لن تستطيع إقناعه مقومات السياحة البريئة من المعاصي والآثام لأن هدفه الوصول إلى تلك المعاصي والآثام وربما نفعته التوعية الحكيمة المركزة. والذي يسافر لإدخال السرور على نفسه وعلى أسرته ملتزماً بالآداب الشرعية في نفسه وفي أهله لن تجذبه إغراءات سياحة الفساد مهما لبست من زخرف القول والتزيين بالباطل، وهكذا.. ولكن هذا الصنف يبحث عن مقومات معينة لتحقق سياحته أهدافها ومراميها.. وهو ما سيكون محور الحديث وشجونه فأقول: أولاً: تتوافر في بلادنا كثير من مناطق الجذب السياحي ذات الطبيعة الباهرة والأجواء المناخية الملائمة والتي يمكن بشيء من العمل الجاد ان يستفاد منها في عمل مناطق سياحية جذابة من الطبيعة ذاتها بادخال بعض اللمسات الجمالية والتحسينات البديعة. ولكن المشكلة الكبرى هي وجود بعض المناطق المسورة بأسوار اسمنتية أو حديدية لمنع الناس من ارتيادها وهي تشغل مساحات لايستهان بها من المواقع الصالحة للنزهة، والناس في حاجة إليها. لذا فإن من الأولويات منع هذه الأسوار وتعويض أصحابها إذا كانت أملاكاً خاصة ومن ثم جعلها متنزهات عامة يستفيد منها الجميع. ثانياً: هناك متنزهات وطنية في الطائف وأبها وغيرهما.. ولكن هذه المتنزهات تحتاج إلى توفير بعض الخدمات المهمة مثل الأماكن الكافية للجلوس والمحمية من الأمطار ليستطيع المتنزه اللجوء إليها عند هطول الأمطار وليستمتع بالأجواء البديعة آنذاك بدلاً من الرحلات الجماعية الهاربة من المتنزهات عند هطول الأمطار كما هو حاصل في كثير من متنزهاتنا الوطنية الآن. وكذا توفير المصليات والمرافق الصحية الكافية المزودة بالمياه في تلك المتنزهات مراعاة للخصوصية الدينية لهذه البلاد. ثالثاً: تعاني بلادنا من ضعف وسائل الاتصال والمواصلات، ولأهمية هذا القطاع وطنياً كان من الاستثناءات التي استثناها المجلس الاقتصادي الأعلى من الاستثمار الأجنبي. ولكننا نطمع ان نجد تشجيعاً للقطاع الخاص الوطني للاستثمار في المجالات المحظورة على الاستثمار الأجنبي. كيف ندعو إلى سياحة وطنية ونحن نعلم ان الحصول على مقعد في طائرة متجهة إلى أحد مصايفنا طوال الصيف من أحلام الضباع؟ وإذا حصل المسافر على مقعد بطريقة «ما» فلن يسلم من التأخير والتعطيل. وإذا فكر في القطار فلن يجد سوى طريق واحد وخدمات لا تشجعه. وكيف ندعو إلى سياحة وطنية والحصول على هاتف ثابت أو نقال يمر باجراءات معقدة لا يستطيع السائح انهاءها في مدة سياحته القصيرة كما ان التكلفة لا تقارن بالدول المجاورة؛ لأنه لم يتم التخطيط لجذب هذا السائح أساساً بسبب انعدام المنافسة؟ والنقل الجوي حكر على الخطوط السعودية وليست هناك شركة منافسة لها حتى تكون قطاعاً خاصاً حقيقياً؛ إذ المنافسة هي التي تجبر المؤسسة أو الشركة على تحسين أدائها والارتقاء بخدماتها، وبدون المنافسة تصبح المباهاة بما يسمى «إنجازات» مثل ارتفاع عدد المستفيدين من خدماتها ضرباً من المماحكة. فما جدوى إنجازات يجبر الناس عليها دون اختيار؟ وفي دول مجاورة أقل منا سكاناً ومساحة أكثر من خطوط طيران وطنية، فما الذي يمنع من وجود أكثر من خطوط طيران لدينا؟ وسكة الحديد مؤسسة عامة فيها عدد كبير من الموظفين وليس لها سوى خط حديدي واحد يصل بين الرياض والدمام وبواسطة قطارات أكل منها الزمن وشرب ماشاء ان يأكل ويشرب. ومنذ زمن طويل ونحن نسمع عن خط حديدي سيربط المناطق الثلاث الشرقية والوسطى والغربية ولكن الدراسات حوله لم تصل إلى نهاية برغم انه لا يوجد عاقل على ظهر الأرض يشك في جدواه الاقتصادية المرتفعة ولاسيما في مواسم الإجازات والحج. ولو اتيح للقطاع الخاص لنُفِّذ منذ زمن طويل. و«شركة الاتصالات» ليست قطاعاً خاصاً حقيقياً لأنه لا منافس لها، فالمواطن مجبر عليها. وفي دول مجاورة لنا تتعدد شركات الاتصالات فتتنافس على كسب ثقة الناس ورضاهم عن طريق الخدمات والأسعار. ولكن كيف يحدث هذا في بلادنا المترامية الأطراف في ظل شركة وحيدة مسيطرة؟ أجزم أنه لو سُمِح لشركة الراجحي المصرفية أو للبنك الأهلي أو للبنك الأمريكي أو لغيرها من البنوك والمؤسسات الاقتصادية والمالية الكبرى بدخول سوق الاتصالات مع حفظ حق الدولة نظير تأسيسها البنية التحتية والخدمية والأمنية لتحسنت الخدمات والأسعار ولاستفاد اقتصاد البلد ولأصبح القطاع الخاص فاعلاً حقيقياً في الاقتصاد الوطني. والأمل ان يدرس المجلس الاقتصادي الأعلى هذا الأمر وان يتيح للقطاع الخاص فرصة المشاركة في قطاع النقل الجوي والحديدي وقطاع الاتصالات عن طريق إتاحة الفرصة لهذا القطاع بتأسيس خطوط طيران وطنية أهلية وبتأسيس شركات اتصالات وفق ضوابط تحفظ المصلحة العامة، وربما كان مناسباً لإعلان عن مزايدة عامة لتنفيذ خط حديدي يربط المناطق الثلاث؛ لأن ذلك يحقق الفائدة للمواطن ويفيد خزينة الدولة واقتصادها. وهل هناك ما يمنع ان نسمع عن تنافس بين البنوك المحلية على الاستثمار في قطاع النقل الحديدي والجوي والاتصالات؟ رابعاً: تشتد في الصيف المنافسة بين مصايفنا على إقامة الحفلات الفنية التي تستقطب كثيراً من الأموال والجهود وتكاد تكون الشغل الشاغل للمسؤولين عن الموسم السياحي دون فائدة ترتجى للفرد أو للمجتمع أو للوطن. فلماذا لا تصرف هذه الجهود والأموال من أجل النهوض بمستوى السياحة الوطنية؟ خامساً: في بلادنا كثير من الآثار التي يمكن استثمارها سياحياً ولكن يمكن وصف هذه الاستفادة بأنها معطلة لغياب التخطيط الهادف إلى التعريف بهذه الآثار مع الأخذ في الاعتبار بالضوابط الشرعية. سادساً: معظم وسائل الإعلام الأهلية المحلية بدون هوية وطنية حقيقية إذ تسيطر عليها النظرة المادية فتروج للسياحة الخارجية عن طريق الاستطلاعات الصحفية ربما كانت مدفوعة الأجر وعن طريق الإعلانات مدفوعة القيمة وليست لبلاد إسلامية بل لبلاد كفر وإلحاد. كما ان مكاتب السفر تسير على المنهج ذاته، مما يجعل توعية العاملين في هذين الحقلين وتنظيم عملهما من الأوليات المهمة لتنشيط السياحة الوطنية وفق ترتيبات رسمية تعطي للمصلحة الوطنية أهميتها وأوليتها المتقدمة. سابعاً: تقوم لجان التنشيط السياحي بجهود مشكورة ولكنها مقصورة على البرامج المقترحة لكل صيف ولها جهود ملموسة في التنسيق بين الجهات ذات الصبغة الخدمية على مستوى المنطقة. ولكن المطلوب هو التخطيط بعيد المدى والتنسيق على مستوى الوطن كله، وهذان الأمران لا تملكهما ولا تستطيعهما هذه اللجان والأمل قوي بالله تعالى ثم بالهيئة العليا للسياحة للنهوض بهذين الواجبين لتصبح السياحة الوطنية قادرة على المنافسة، فأمام المتاحات الكثيرة تصبح القدرة على المنافسة أشد ضرورة. ولأن الناس لديهم متاحات كثيرة فسياحتنا الوطنية بحاجة ماسة إلى القدرة على المنافسة وإلا لن تنجح وتنهض. وبالله التوفيق... [email protected]