لا يختلف المؤرخون فيما أبدته «الدرعية» من بسالة وصلابة، طوال مدة حصارها وإن تباينت تقديراتهم لتلك المدة ما بين خمسة أشهر وبضعة أيام، حسبما كتب الريحاني (1)، إلى ستة أشهر وأيام كما ذهب عبدالله بن خميس (2)، إلا أنهم يختلفون في تقدير أسباب نجاح حملة إبراهيم باشا في احتلال الدرعية، وإنهاء الدولة السعودية الأولى، فيما فشل من سبقه، ففريق منهم لجأ إلى أكاديمية التحليل للتفسير والتعليل، وفريق آخر يعزوه إلى نقص في التدبير، فيما ثالث يبرر ويعذر!. المحللون الغربيون فسروا ذلك النجاح نتيجة لارتكاب أخطاء تكتيكية من الجانب الخاسر، فالإنجليزي «بريد جس» (3) يقول (يبدو لي أن هزيمة أصدقائي الفرس في حربهم مع الروس، وهزيمة النجديين في حربهم للترك، ناشئة عن نفس السبب، وهو أنهم أرادوا الوقوف بمشاة غير مدربين، وفرسان غير نظاميين أمام نيران المدفعية..)، فيما ذهب القائد الفرنسي الجنرال «فيغان» (4) (إنه كان يجب الانسحاب ثم الهجوم كلما سنحت الفرصة هجوما خاطفا، حتى إذا جاءت الظروف الملائمة يتم توجيه ضربة قاصمة واستعادة البلدان المحتلة)، أما المؤرخ التشيكي (موسيل) فيذكر أن أحد الأخطاء يكمن في أن العرب لم يستغلوا مزيتهم الكبرى وهي سرعة التحرك، فكان يجب عليهم أن يفاجئوا العدو بهجمات تشن عليه خارج المدن ثم يفروا بعد إيقاع الخسائر في صفوفه ولن يقوى على ملاحقتهم لأن النجدي أسرع عدوا، وأخف ثقلا، وأكثر تحملا لمشاق الصحراء، وأعرف بها من عدو غريب (5). المؤرخون النجديون من جانبهم أبرزوا نواحي أخرى من الأخطاء التي منها الانسحاب من القصيم (خط الدفاع الشمالي الغربي الأول عن نجد)، وترك بلدانها وخاصة (الرس) التي أبدت دفاعا بطوليا طوال ما زاد عن ثلاثة أشهر دون دعم أو مساندة، أو بحاميات ضعيفة، لا تستطيع الوقوف أمام حملة عسكرية منظمة، مما جعلها لقمة سائغة، ومحطات راحة وتشوين وإمداد بجيوش الحملة الغازية (6). أما الخطأ الأكبر، فكان عدم اغتنام فرصة لو استغلت لتغير مجرى التاريخ، على حد تعبير المؤرخ مقبل الذكير (7) وذلك عندما اشتعلت النيران في جنبخانه (مستودع ذخائر) جيش إبراهيم باشا أثناء حصاره للدرعية، فلو تم الهجوم على معسكره لما كان لديه ما يدافع به عن نفسه وجيشه، ولكن الله تعالى لم يقدر.. أما الخطأ الاستراتيجي القاتل، فكان أول وأبرز من أشار إليه هو الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ في مقاماته (8)، حين قال: إن الشيخ (مبارك الظاهري) أشار على الإمام عبدالله بن سعود (أن يجيء بثلاثة آلاف من الإبل ويجعل عليها الأشدة، ويحمل عليها ما كان له ولا يدع في الدرعية له طارف، ويصعد مع عربان قحطان وغيرهم .. فلو ساعد القدر فلن يظفر به عدوه.. وهذا الرأي أسلم له)، كما نقل ذلك نصا العجلاني في تاريخه (9) ولا يخفى مدى سلامة ذلك الرأي، فنابليون بونابرت احتل موسكو عاصمة روسيا، وهتلر احتل باريس عاصمة فرنسا إلا أن كليهما انهزم في النهاية وتم تحرير العاصمتين.. رغم انسحاب القياصرة الروس والجنرال ديغول من عاصمتيهما في البداية، أمام قوات غزولا قبل لهما بها، وهو ما فعله الإمام تركي بن عبدالله آل سعود، مؤسس الدولة السعودية الثانية. أما التبرير، فلعل أبرزه ما قاله ابن بشر (10) (ثم تفرق عن عبدالله من كان عنده، وبذل لهم الدراهم فأخذوها وهربوا)، وما جاء في التهميش من بيت شعر يقول: تولى قتال المجرمين بنفسه وقد أسلماه مبعد وحميم ولكن الحقيقة أن الدرعية لم تسلمه، بل قاتلت قتال الأبطال طوال شهور طوال، قتالاً شارك فيه لا أهل الدرعية فحسب بل ورجال من معظم بلدان نجد. يكفي، ما عدد ابن بشر نفسه من ضحايا ذلك الحصار الذين قدر عددهم بحوالي (1300) رجل، حدد مئات منهم من مختلف بلدان نجد (11). فالحقيقة الناصعة أن الإمام عبدالله بن سعود آثر تسليم نفسه، فداء لأطفال ونساء الدرعية، خشية ان دخلها الغزاة عنوة استباحوها فآثر الصلح (رحمه الله) مضحيا بنفسه على استباحة عاصمته. أما العاذرون، فربما كان أبرزهم (ابن سند) حينما نقل عنه العجلاني (12) قوله (لما تحارب ابن سعود مع إبراهيم باشا وغلب ابن سعود، فما غلبه إبراهيم باشا من قلة عسكر أو من عدم شجاعة عساكره، أو من احتياج إلى مال، وإنما غلبه إبراهيم باشا بالمدافع والآلات الحربية والنيران التي لا قبل له بها هو وجميع العرب، وهذا أمر آخر غير العساكر وغير الشجاعة، يحتاج إلى معارف وعلوم وصناعات وهندسة).وفي الجملة الأخيرة، إشارة قلما تطرق لها المؤرخون في تحليل وتفسير، سبب حاسم، كان له أبعد الأثر في احتلال الدرعية.. سبب ما كان ممكنا لإبراهيم باشا حيازته، لولا الحملة الفرنسية وما خلفته بعد رحيلها من مصر!. * * * سلاح المدفعية، الذي عزا له معظم المؤرخين والمحللين العسكريين، الدور الحاسم في تلك المعارك، لم يكن غريباً على أهل نجد. فقد استخدموها في حروبهم، حينما نقلوها على ظهور الجمال، بل وحتى أنهم حاولوا صناعتها، مثلما ذكر الريحاني (13) في وصفه لأول حصار تعرضت له الدرعية، على يد «عريعربن دجين» عام (1178ه)، فكتب يقول: (كان عريعر صاحب مكر وحيلة، بل كان مخترعاً.. اخترع آلة جديدة للحرب سميت «الزحافة» وهي صندوق من خشب يسير محمولاً على دراريج، يجلس فيه العشرة إلى العشرين رجلا، وهم في أمن من رصاص العدو.. وما أشبه زحافة عريعر بدبابة اليوم ثم حاول عريعر أن يصيب مدفعاً كبيرا يدمر به الدرعية، فأمر بجمع الحديد والنحاس.. وشبت النيران، ونفخت المنافخ، وذابت في المراجل المعادن، ولكنها في النهاية صدت الطالب وعصت القالب، قال مؤرخ ذلك الزمان «كلما أفرغها في القالب أبت»!.. كما ذكرت المدافع بأنواعها في حملات الغزو السابقة على بلدان نجد والدولة السعودية، إلا أنها فشلت في جميع تلك الغزوات في تحقيق أدنى انتصار فملاحم صمود كل من حصن الهفوف بقيادة سليمان بن عفيصان، وحصن (صاهود) في المبرز بقيادة سليمان بن ماجد، أمام المدافع الثقيلة المنقولة بحرا في حملة «علي الكيخيا» التركية على الأحساء، ملاحم مذكورة ومشهورة في جميع كتب التاريخ، بل ان المدافع التي كانت ضمن الحملة التي سيرها غالب بن مساعد (شريف مكة) عام (1205ه) في حملته على نجد، فشلت حتى في اقتحام حصن صغير (قصر بسام) المعروف في السر، رغم أن من كانوا فيه لا يزيد عددهم على الثلاثين كما ذكر ابن بشر (14).. فلماذا حققت مدافع إبراهيم باشا ما لم تحققه مدافع من سبقه؟!. أول إجابة على ذلك التساؤل تكمن في تاريخ ابن بشر ذاته، حينما ذكر (15) في وصف مدافع حملة إبراهيم باشا (ومعه من العدد والعدة والكيد الهائل مما ليس له نظير، كان معه مدافع وقبوس هايلة كل واحد يثور مرتين، مرة من بطنه ومرة تثور رصاصة وسط الجدار بعدما تثبت فيه فتهدمه).. فكما هو معروف كانت المدافع السابقة تطلق قذائف عبارة عن كرات حديدية (الجلة)، فيما مدافع إبراهيم باشا استخدمت لأول مرة القذائف المتفجرة. أما مصدر تلك المدافع فيميط اللثام عنها الربحاني في تاريخه (16) حينما ذكر في أحد الهوامش: (منها مدافع فرنسية محفورة عليها هذه الكلمات: صنعت في باريس في السنة الثانية من عهد الجمهورية..) ومن المعروف أن الجيش الفرنسي، حينما انسحب من مصر، باع معداته وخاصة الثقيلة منها كما ذكر الجبرتي (17) في تاريخه، للسلطات العثمانية. (الشرط السادس عشر من اتفاقية جلاء الفرنسيين عن مصر). أما متانة وصلابة تلك المدافع الفرنسية الصنع، مقارنة بما كان في أيد أهل الدرعية فحسب، بل وحتى المدافع التركية الثقيلة، فيكفي الاستشهاد بما ذكره العجلاني (18)، من أن «علي الكيخيا» في حملته على الأحساء وصلت إليه مدافع ثقيلة إلا أنها كانت تنفجر وتتمزق بعد الطلقة الرابعة!.. فيما لم يذكر أحد من المؤرخين تعطل أو تمزق مدفع فرنسي واحد، طوال حملة إبراهيم باشا..ولكن المدافع مهما امتازت به من تقنية ونوعية، ككل المبتكرات الحديثة الحاضرة، لا يمكن ان تؤدي مهمتها بنجاح ما لم يكن خلفها رجال مؤهلون!. * * * لعل أكثر ما يبرهن على ما للرجال المؤهلين من دور، هو المقارنة ما بين حملتين مجهزتين بنفس المعدات والعتاد والسلاح، بما فيها المدافع، باءت الأولى بالاندحار والفشل، فيما كتب للثانية النجاح!.. الحملة الأولى كانت بقيادة ابن «محمد علي» الأصغر، أحمد طوسون باشا، منيت بهزيمة منكرة، حينما واجهها الإمام عبدالله وأخوه فيصل مع جيشهما المظفر في وادي الصفراء، فألحقوا بها هزيمة نكراء، رغم وجود تلك المدافع إذ يذكر شاهد عيان، هو الشيخ عبدالرحمن بن حسن في مقاماته (19): (فأخذوا يضربون بالقبوس فدفع الله شر تلك القبوس الهائلة عن المسلمين إن رفعوها مرت ولا ضرّت، وإن خفضوها دفنت في التراب..) فيما ذكر العديد من المؤرخين ومنهم ابن بشر أن إبراهيم باشا في جميع معاركه، كان يخرج بصحبة نخبة من قادته عند كل موقع يزمع مهاجمته، فيستطلع المكان ويقيس المسافات، وعلى رأس أولئك القادة ضابط فرنسي، اسمه (فيسيير) كان قد اشترك في حروب نابليون، واتخذه إبراهيم باشا مستشارا عسكريا له (20). فشتان ما بين مدافع قذائفها، إما تمر ولا تضر أو تدفن في التراب، وما بين مدافع يختار لها أفضل المواقع وتحسب لها المسافات وما ذلك إلا بوجود رجال مؤهلين فما فائدة القوس إن لم تعط لباريها، حسبما يقول المثل العربي الشهير. المستشارون العسكريون لم يكونوا الفئة الوحيدة، التي اصطحبها إبراهيم باشا في حملته، فقد عدد عبدالرحيم عبدالرحمن في تاريخه (21) كل من (سكوتو) و (جنتلي) و (تودسكين) و (شيشو) الذين هم من الأطباء والصيادلة الطليان، الذين شكلوا أول بعثة صحية ترافق حملة غازية على نجد وتتضح أهميتهم في إخلاء دور لهم في مدينة شقراء بعد احتلالها لاتخاذها كمستشفى لمعالجة الجرحى وإعادتهم إلى الجيش المحاصر لمدينة الدرعية..!. حراب الحملة الفرنسية لا تقتصر على سلاح المدفعية وأفواج العلاج والإسناد، بل وطالت طرق تدريب الجنود وتسليحهم. فالجبرتي يذكر في أخبار سنة (1217ه): (اتخذ الباشا عسكرا من طائفة التكرور.. وألبسهم ملابس الفرنسيين وعليهم كبير يعلمهم اصطفاف الفرنسيس.. وجعل لهم كبيرا أيضا من الفرنسيس يعلمهم الكر والفر والرمي بالبنادق ) (22) أما تسليحهم مقارنة بتسليح أهل نجد فلعل أكثر ما يوضح تفوقه، ما قاله ابن سند: (فمسافة ما يفك النجدي بندقيته من جرابها ويولع الفتيلة يكون قد أصابته خمس رصاصات على الأقل من الجندي التركي الذي يملك بندقية حديثة سريعة الطلقات (23) .. فيما التفوق في مدى تلك البنادق يبديه إشارة جاءت في تاريخ ابن بشر (24): (قتل فيصل بن سعود بن عبدالعزيز رحمه الله.. وكان الموضع الذي رمي فيه لا تبلغه الرمية، ولكن ذكر لي من رأى تلك البندق مع رجل من العسكر، قال طولها تسعة أشبار ورصاصها أحد عشر درهماً)تلك بصمات لا تخفى ولا تنكر للحملة الفرنسية على احتلال الدرعية، ولكن العجب كل العجب، أنه مع كل ذلك التفوق الساحق، استطاعت الدرعية وأبطالها من رجال نجد الأشاوس الصمود، تحت مقصف مدفعية لا ينقطع ليل نهار طوال شهور، تلك بحق إحدى ملاحم أيام العرب الخالدة. «المصادر والمراجع» (1) تاريخ نجد وملحقاته ص (74 75). تأليف : أمين فارس الريحاني. (2) الدرعية العاصمة الأولى ص (424) تأليف: عبدالله بن محمد بن خميس. (3) تاريخ البلاد السعودية الجزء الرابع ص (131) تأليف : الأستاذ الدكتور منير العجلاني. (4) المرجع السابع ص (112). (5) الدرعية العاصمة الأولى (أعلاه) ص (426). (6) مخطوطة تاريخ مقبل الذكير الجزء الأول ص (88). (7) المرجع السابق الجزء الثاني ص (49). (8) الدرر السنية في الأجوبة النجدية تأليف: الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ. (9) تاريخ البلاد السعودية (أعلاه) الجزء الرابع ص (112). (10) عنوان المجد في تاريخ نجد الجزء الأول ص (417). تأليف: الشيخ عثمان بن عبدالله بن بشر حققه وعلق عليه : عبدالرحمن بن عبداللطيف آل الشيخ. (11) المرجع السابق الجزء الأول ص (418 420). (12) تاريخ البلاد السعودية (أعلاه) الجزء الرابع ص (130). (13) تاريخ نجد وملحقاته (أعلاه) ص (34). (14) عنوان المجد.. (أعلاه) الجزء الأول ص (173). (15) المرجع السابق الجزء الأول ص (387). (16) تاريخ نجد وملحقاته (أعلاه) الهامش الثالث من صفحة (71). (17) تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار الجزء الثاني ص (313). تأليف العلامة الشيخ عبدالرحمن الجبرتي (طبعة دار الجيل بيروت). (18) تاريخ البلاد السعودية (أعلاه) الجزء الثاني ص (115). (19) عنوان المجد.. (أعلاه ) الجزء الأول هامش الصفحة (324). (20) تاريخ البلاد السعودية (أعلاه) الجزء الرابع ص (76). (21) الدولة السعودية الأولى الجزء الأول ص (340). تأليف: الدكتور عبدالرحيم عبدالرحمن عبدالرحيم (الطبعة الخامسة دار الكتاب الجامعي بالقاهرة). (22) تاريخ عجائب الآثار.. (أعلاه) الجزء الثاني ص (529). (23) تاريخ البلاد السعودية (أعلاه) الجزء الرابع ص (80). (24) عنوان المجد (أعلاه) الجزء الأول ص (412).