في غرة شهر جمادى الأولى سنة 1233ه وصل الطاغية إبراهيم محمد علي باشا إلى مشارف حصن التوحيد (الدرعية) بجبش عرمرم مزود بآلات الهدم والتدمير من المدافع والقنابر والقبوس وبراميل البارود ومؤلف من المرتزقة من شذاد الآفاق من الفرنسيين والإيطاليين والألبان الأرناؤوط والترك والشراكسة والمغاربة والأفارقة والمصريين الذين جهزهم والده محمد علي باشا والي مصر من قبل الدولة العثمانية بإلحاح من قبل السلطان العثماني محمود الثاني بن عبدالحميد الأول الذي تولى السلطنة من سنة (1223ه 1255ه) وكان غالب هذا الجيش من الأتراك ومعه من الأزواد والأموال ما لا يدخل تحت حصر وكان هذا الطاغية الذي يبلغ من عمره ستاً وعشرين سنة اتخذ مستشاراً فرنسياً له يدعى (فيسيير) كان قد اشترك في حروب نابليون فاتخذه مستشاراً عسكرياً له كما جلب معه بعثة صحية فيها أطباء جراحون وصيادلة أوروبيون منهم (أنطونيو نيوسكوتو) طبيب الباشا الخاص و(سوشيو) وهو صيدلي ومنهم الطبيب (اندرياجنتيلي) الذي أصيب بقنبلة في قدمه عند أسوار الدرعية فقطعها زميله الإيطالي (تود سيكيني) وكان الإمام عبدالله بن سعود قد حصن (الدرعية) ورتب رجاله وأتباعه حيث وفد إليها كثير من أهل نجد للدفاع عنها وسلاحهم الإيمان ثم السلاح المكون من البنادق الفتيل والسيوف والرماح والمدافع من نوع (الطوج) بدأت المناوشات بين جند الحق أهل التوحيد المدافعين عن الدرعية وبين جند الباطل وبعد ثلاثة أسابيع من بداية تلك المناوشات تمكن المهاجمون من الاستيلاء على المتاريس والمقاصير الواقعة في شمال الدرعية وظن الغازي أن سقوط الدرعية لن يطول بعد سقوط هذه المتاريس والمقاصير ولكن أمله قد تبدد لشدة المقاومة التي أبداها أهل الدرعية ودفاعهم المستميت عن عرينهم حيث أبدوا شجاعة وبسالة في صدهم المعتدي حتى أن نساء الدرعية كن يقتحمن خط النار يحملن (الجحال) الفخارية المملوءة بالماء إلى الرجال المجاهدين في المتاريس والمقاصير وفي يوم 8-8-1233ه اشتبك المجاهدون مع الأتراك في معركة قتل وجرح فيها من المعتدين الأتراك 160 رجلاً من بينهم ضباط ولما عاد المعتدون إلى معسكرهم بعد هذه المعركة لالتماس الراحة في معسكرهم هبت رياح جنوبية في وسط المعسكر وحملت معها فيما حملته جذوة من نار موقد أشعلها أحد جنود المعتدين ليطبخ عليها طعامه فحملت هذه الريح المسيَّرة بأمر الحي القيوم الذي لا تخفى عليه خافية تلك الجذوةوألقتها مباشرة على خيمة كبيرة منصوبة بعيداً بين هضبتين صغيرتين قد جعلها المعتدي مستودعاً لذخيرته الحربية فسبحان المدبر الذي لا تخفى عليه خافية فحدثت هذه المعجزة الإلهية باشتعال البارود في تلك الخيمة الكبيرة التي تحوي مئتي برميل من البارود ومئتين وثمانين صندوقاً من الطلقات وقذائف وقنابل مشحونة وقد ذهب كل عتاد المدافع أدراج الرياح واقتلعت شدة قوة ذلك الانفجار الخيام واحترق عدد منها، وظل الناس لمدة عشر دقائق يسمعون دوي انفجار القذائف وكانت شظايا القنابل تتطاير في الهواء وكان اندفاعها قويا ووصلت النيران إلى أكوام الشعير والقمح المخصصة لطعام الجيش المصري التركي المعتدي، وسارع الجيش لإطفاء الحريق إلا أن النيران وعلى الرغم من ذلك التهمت نصف المؤن الموجودة في المعسكر وكانت جثث الضحايا من جيش المعتدي قد تفحمت بسبب البارود وأشلاء الأجساد المتناثرة هنا وهناك والجرحى الذين ملأت أجسادهم الجروح، لقد زلزلت الأرض من جراء الانفجار وأحس به الناس من بعيد ومنهم أهل الدرعية ولقد أنزلت هذه العقوبة من الله سبحانه وتعالى الهلع والدهشة بالأتراك وتركت المعتدي إبراهيم باشا في وسط الصحراء على مسافة خمسمائة فرسخ عن مصر في مواجهة أهل التوحيد الذين هم أكثر منه عدداً ولم يبقى معه من الأسلحة سوى الطلقات التي في جعب جنوده وحوالي تسعمائة طلقة مدفع و300 قنبلة أو قذيفة كانت داخل بطاريات المدفعية ثم تتابعت المناوشات وطال الحصار ثم تتابعت الإمدادات التي كانت تصل الباشا المعتدي من مصر ونجد والحجاز وهو كل يوم في قوة فكلما نقص جنده ألفاً أتاه ضعفها ولقد صمد أهل التوحيد وجالدوا المعتدين بعزيمة وقوة إيمان ورباطة جأش حتى قضى الله أمراً كان مفعولاً، ولقد خسر المعتدي الظالم محمد علي باشا في حربه على الحجاز ونجد منذ خروج ابنه طوسون وابنه إبراهيم واثني عشر ألف جندي وخسائر أهل التوحيد أهل الدرعية 1300 رجل، ورفض الإمام الشهيد عبدالله بن سعود أن يغادر عاصمة ملكه ولم يشأ أن ينجو بنفسه قبل محاصرتها وقد كان له ذلك ولكنه أبى ولعله رأى في هروبه منها عاراً تهون دونه أي مصيبة. وفي يوم 8-11-1233ه استسلم الإمام الشهيد واضطر إلى أن يرسل إلى إبراهيم باشا ليطلب منه المصالحة فابتهج الطاغية إبراهيم باشا ابتهاجاً عظيماً وأذن بوقف القتال وصالح على الدرعية الإمام الشهيد عبدالله بن سعود بن عبدالعزيز بن محمد بن سعود في 10-11-1233ه بعد ما استمرت مقاومة الدرعية للغزو المصري التركي ستة أشهر وبضعة أيام قاوم فيها أهل الإيمان حماة الدرعية من أهلها وأهل نجد المخلصين وولاة أمرهم ومشائخهم قاوموا المدافع الكبيرة والأسلحة الفتاكة المختلفة والقنابر والقبوس والبارود. ويذكر مؤرخ نجد الشيخ الجليل عثمان بن عبدالله بن بشر في معرض مقاومة الدريعة ومقاومة غيرها من المدن المحصنة: أن إبراهيم باشا أخذ مدينة (عكا) سنة 1248ه عنوة في سهولة ويسر مع أنها كانت في قوة عظيمة من الرجال والأموال والإحصان بالبنيان. ومن حرب الدرعية وصمودها هذه المدة الطويلة شهد أهل الآفاق من أهل العراق والبصرة وغيرهم بالفضل لأهل الدرعية وقوتهم وثباتهم وشجاعتهم وصدق جلادهم وصبرهم على الحروب حيث ثبتوا له هذه المدة الطويلة وقتلوا من عسكره أمماً عظيمة ولكن عند ما يقتلون من عسكره ألفا يأتيه ضعفها مدداً وأهل الدرعية إذا قتل منهم نقصوا ولا يأتيهم أي مدد حيث إنهم محاصرون، فقضى الله أمره الذي قدره فصالح الإمام الشهيد عبدالله بن سعود إبراهيم باشا وتم الاتفاق على أن تسلم الدرعية له وأن يتعهد بالإبقاء عليها وألا يوقع بالنجديين أو ينالهم بضرر وأن يذهب الإمام عبدالله بن سعود إلى الأستانة كما هي رغبة السلطان التركي محمود الثاني فسافر الإمام الشهيد إلى القاهرة في 14-11-1233ه ومن معه وقد سار معه 400 من العسكر يقودهم رشوان آغا لحراسته فوصل القاهرة في 17-1-1234ه ومنها إلى استانبول حيث وصل إلى خليج استانبول في 15-2-1423ه ومعه كاتبه عبدالعزيز بن سلمان وخازنه عبدالله السري وغالب الظن أن الكاتب عبدالعزيز هذا هو عبدالعزيز بن حمد بن سلمان من حمولة (آل سلمان) أهل جلاجل وروضة سدير حيث إن المذكور كان مؤذنا في جامع جلاجل شاباً، لسرجه معلقا، لدليه مدرسا فيه وكان كاتباً للوثائق في جلاجل بخطه المتقن النير الحسن وغالب الظن أنه قد رحل إلى الدرعية ضمن من رحل إليها من شقراء حينما توجه الإمام عبدالله بن سعود بن عبدالعزيز بن محمد بن سعود وذلك لتحصين الدرعية قبيل توجه الجيش المصري التركي إلى شقراء حيث يتواجد كثير من أهل سدير في شقراء للدفاع عنها أو أنه خرج مع قوة سدير المتوجهة إلى الدرعية للدفاع عنها تحت إمرة عبدالله بن الشيخ حمد بن راشد العريني قاضي سدير. قال الشيخ صالح المذكور للباشا عند حصاره للرس بعد ما سمع الشروط التعجيزية التي اشترطها إبراهيم باشا: إنه لا يتفاوض مع فلاح مصري وأن خصمه هو أمير نجد وحاكمها محارب شديد المراس مشهود له بالشجاعة في المواطن كلها. فحقد عليه الباشا فجعله في ملفظ القبس وثُور به حتى تقطع لحمه رحمه الله تعالى. وممن قتل بالقرابين والبنادق قاضي الحوطة والحريق الشيخ رشيد السردي رحمه الله تعالى ومنهم الشيخ أحمد بن رشيد الحنبلي مبعوث الإمام عبدالله بن سعود إلى إبراهيم باشا في حصاره الرس حيث قال الشيخ أحمد للباشا: إن هذا ضرب من الخيلاء فأنت تهاجم الرس منذ زمن ولن تستطيع الاستيلاء عليها. فاغتاظ إبراهيم باشا من هذا الكلام فحقد عليه فلما هدم الباشا الدرعية قبض عليه وأمر بتعذيبه وقلع أسنانه ثم رحله إلى مصر للتدريس في القلعة. ثم أمر الأتراك على أهل الدرعية الذين نزلوها سنة 1235ه بعد تدميرها سنة 1234ه فأمر عليهم (حسين بك) أن يرحلوا عنها إلى (ثرمدا) بنسائهم وذراريهم وكان في (ثرمدا) خليل آغا ومعه عسكر الترك فأنزلهم في موضع جميعا بأموالهم وذرياتهم وبنى عليهم بنيانا وجعل له باباً لا يدخلون ولا يخرجون إلا معه والموضع هذا يسمى (الحجيرة) ولا تزال تحمل اسمها حتى الآن وتقع شرق بلد ثرمدا وعليها سور لم يبق سوى آثاره فلما قدم حسين بك ثرمدا أمر المنادي ينادي لأهل الدرعية من أراد بلداً ينزلها فليأتنا نكتب له كتابا يرحل إليها ثم قال لهم اجتمعوا حتى نكتب لكم كتبهم فحضر من كان منهم غائبا أو مختفيا أو محترفا فلما اجتمعوا عنده أمر الترك أن يقتلوهم أجمعين فجالت عليهم خيول الترك ورجالها وأشعلوا فيهم النار بالبنادق والطبنجات والسيوف حتى قتلوهم عن آخرهم وكانوا مئتين وثلاثين رجلا فذهبوا مع الشهداء رحمهم الله جميعا. وفي سنة 1236ه قدم حسين بك ومن معه إلى الرياض ورئيسه يؤمئذ تركي بن عبدالله بن محمد بن سعود فتصدى لحربهم فدخلوها بغير قتال واحتصر تركي ومن معه من رجال القصر فرماه الترك بالقبوس وحاربوه فخرج من القصر ليلا فلما أصبح أهل القصر طلبوا الأمان من الترك فأعطوهم الأمان وأخرجوهم وهم نحو سبعين رجلا فغدر بهم الأتراك وقتلوهم عن آخرهم صبرا، وحبس عمر بن عبدالعزيز بن محمد بن سعود وأبناءه وسيرهم إلى مصر. كما كان الجيش الغازي يقتلون الأسرى كما في حربه وحصاره شقراء وكذلك كانوا يمثلون بالقتلى كما حدث منهم بقطع آذان قتلى شقراء وهم 168 حيث قطعت آذانهم وجيئ بها لتلقى أمام الباشا وكما حدث في حربه وحصاره للدرعية حيث أسروا حياة أبيه المذكور بورود فرمان التولية من السلطان العثماني عبدالمجيد الأول بن محمود الثاني سنة 1264ه وكان أبوه إذ ذاك حياً ولم تطل ولاية الطاغية إبراهيم باشا لمصر سوى سبعين يوماً حيث توفي سنة 1265ه وهو في الستين من عمره اتصف ذلك السفاح بالدموية والوحشية لا يردعه في فعائله التي فعلها دين أو خلق أو ضمير نشر الموت والدمار والخراب في معقل التوحيد جزيرة العرب ومنها جرائمه الشنيعة في ضرما. أما والده محمد علي باشا فولد في (قولة) وهي (فرضة من أعمال الرومللي) سنة 1183ه تولى ولاية مصر سنة 1220ه اتصف بالدموية عصي المزاج إلى الدرجة القصوى ظالم غشوم سفاك للدماء وفي آخر حياته اختل عقله وأعطيت الولاية لابنه إبراهيم باشا وتوفي محمد علي باشا سنة 1265ه وعمره 83 سنة. أما ابنه طوسون فقد ولد سنة 1210ه سيَّره والده الطاغية محمد علي باشا في حملته الأولى على الحجاز ونجد سنة 1226ه وعمره ستة عشر سنة وكان أهل نجد يسمونه (طلمس) وقد أرخوا بتلك السنة التي جاء فيها وهي سنة 1226ه ومن جرائمه في (ينبع البر) أنه أرسل 60 رأساً مقطوعة بعد قتلهم ولكن هذه الرؤوس فسدت، وذلك في رسالة إلى أبيه وبعد حصول قلاقل بمصر خف إلى ينبع واستبقى حامية في المدينةالمنورة ثم أبحر إلى السويس ثم الاسكندرية فتوفي بها بالطاعون حيث نقلته له جارية من جواريه من (جورجيا) عند معاشرته لها. أما السلطان العثماني محمود الثاني بن عبدالحميد الأول فقد عاقبه الله سبحانه وتعالى بالهزائم المتتالية مع جميع الدول التي حاربها مع أن أسلافه من حكام الامبراطورية العثمانية لم يكونوا يعرفون الهزائم قط فلقد خاض حروباً كثيرة مع بلاد كثيرة وهزم وخسر في هذه الحروب بلدانا من امبراطوريته كاليونان وأجزاء كثيرة مما تحت يده وملكه في أوروبا كما أن خادمه الطاغية محمد علي باشا انقلب عليه فضم سوريا إلى ملكه مصر وطمع بفتح الأناضول ففتح (أدنه) و(قونيه) حتى وصل (كوتاهيه) من بلاد سلطانه وولي نعمته لمكان الامبراطوية العثمانية. وهكذا تكون نهاية الطغاة والعاقبة للمتقين ومصير الظالمين إلى دمار لقد عاقبهم الله جل وعلا على ما اقترفت أيديهم فالعقيدة لا تقتلع بالسيوف والقنابر والقبوس والمدافع. حفظ الله هذه البلاد من كل سوء وحاقد، والحمد لله رب العالمين. (*) جلاجل - سدير