الموظفون والعاملون، سواء كانوا في القطاع الخاص وظائف الدولة المختلفة، وما في حكمها، أو في القطاع العام الشركات والمؤسسات وما إليها ، هؤلاء انصهروا في أعمالهم فترة طويلة من الزمن، حتى أصبح مشوارهم اليومي، نمطاً ثابتاً، وجزءاً من حياتهم، فاذا أخذ أحدهم اجازة، لم يعرف كيف يستفيد منها، ولا أين يقضيها، ما لم يكن قد رسم عملاً معيناً لهذه الإجازة.. كالزواج أو البناء لمسكنه أو العلاج له، أو لأحد أفراد أسرته.. وما شابه ذلك من أمور ملحة، تدعوه لمبارحة البلد التي فيها عمله إلى بلدة أخرى.. وبعد العمل الطويل، الذي يستغرق زهرة عمره: شباباً قضى أكثره في التحصيل الدراسي.. وكهولة أمضاها في الاهتمام بوضعه الأسري، ومتابعة أولاده صحياً فترة الطفولة، وتربية وتعليماً في سنّ الدراسة، ثم مساعدة في بناء أنفسهم واستقرارهم: وظيفياً وأسرياً. وعن ذلك يبدأ الجسم يضعف، والقوى ينزل رسمها البياني متسارعاً نحو الانحدار، وفي الغالب يحال هذا الموظف أو العامل، إذا كان الله قد متّعه بصحة جيدة، وسلم من ازدحام ملفه في المستشفيات من التقارير والوصفات العلاجية، والأدوية الكيميائية التي توسع في تعاطيها أبناء الدول النامية، لمصالح يريدها من يصف لهم ذلك، ومن يصنِّع.. حتى ان المضادات الحيوية توصف بكثرة، لأبسط الأمراض، وللأطفال بصفة خاصة. بينما الأمم المتقدمة علمياً، نشأت عندهم دعوة جديدة، بعدم التوسع في الأدوية، ومساعدة الجسم بأن تنشط عنده أجهزة المناعة، والخلايا.. لما أودع الله جل وعلا، في بدن الانسان من أجهزة تدافع، وجنود خفية تبذل طاقات عجيبة، في مكافحة كل جسم غريب يدخل بدن الإنسان، ومحاصرته في أضيق الحدود، وطلب المدد إذا شعرت القوة الدفاعية، بقدرات في التكاثر في هذا الدخيل ميكروبات أو جراثيم أو فيروس.. هذا الموظف أو العامل، يحال على التقاعد، حين يبلغ الستين من عمره، وأحياناً الى الخامسة والستين من العمر، وعندنا بالتاريخ الهجري، وعند غيرنا بالتاريخ الميلادي.. ومعلوم ما بينهما من فارق. وقد يحال لأسباب إدارية، وهو كهل، وأحياناً قد يكون لم يتجاوز عتبة الشباب.. وقد تكون هذه الاحالة بسبب مرض طارىء أو لأي سبب من الأسباب. إن كثيراً ممن يحالون، وهم لم يبلغوا السن التقاعدية، قد يحدث لهم ذلك ألماً نفسياً، أو تأثراً وجدانياً، يتحول الى مرض نفسي أو مرض عضوي، كالسكر والضغط، وأمراض الأعصاب.. بل إن بعض من يحالون بعد خدمة طويلة تتهيج عندهم هذه الأمراض التي يطلق عليها بعض الأطباء: أمراض الشيخوخة. إن الكلمة المعتادة عندنا، التي يرددها بعض من أحيل على التقاعد، ووجد فراغاً لم يعرف كيف يشغله، ووقتاً طويلاً، كان يمضي في العمل وهو لا يدري، وإذا به بعد التقاعد أطول من ليل أمرىء القيس الذي أشار إليه في قصيدته المشهورة، بعدما أرخى سدوله في قوله: ألا أيها الليل الطويل ألا انجلى بصبحٍ وما الإصباح منك بأمثل وما ذلك إلا أن المتقاعد، قد كان قبل يوم أو يومين من إحالته، موظفاً مرموقاً، يصول ويجول في تصرفاته، له كلمة مسموعة لا يردّ له أمر يريده، ولا يعصى له نهيٌّ وجَّههُ، بل كل يتحاشى نهيه، خوفاً من سطوته، خاصة عند من يرى العمل الاداري، الذي أرتقى اليه مع استمرار المشوار، كأنه ملكه، بتصرفاته وامتيازاته الوظيفية والاجتماعية. سواء فيما يتعلق بالمردود على نفسه، ومن يحتمي بحماه، نفعاً ومحسوبية، أو من يريد الإضرار به لأي سبب بدر منه: مكايدة وسطوة. أو ما يعود لمن يتملَّق به، ما دام بلغ مكانة القدرة على تغيير بعض الأمور باسم المركز الذي ناله، أو الجاه الذي هيأته له الوظيفة القيادية.. إذ أصدقاء الرخاء والمنفعة كثيرون، وأصدقاء قليلون.. إن من فقد الجاه والمنصب في لحظة، يرى نتائج عمله إن كان محسناً في عمله متعاطفاً مع الآخرين: بالبشاشة والحرص على تفهم أمورهم، وإعانتهم في قضاء حوائجهم، بالايجابية والتعاون، قبل أن يجف القلم الذي كتب به قرار الإحالة على التقاعد.. حصاداً طيّباً لما بذر:«لا يذهب العرف بين الله والناس». أو سوء الأثر بارزاً على من يقابل، بالشماتة، والسرور لزواله عن مكانه الذي لم يُلمس منه فيه خير ولا نفع، بل أول ما يصادفه، ازورار من كانوا يتملّقونه قبل يومين، وإلاشاحة بالوجه لمن يسلِّم عليهم، خوفاً من أن يطلب منهم مساعدة في الإسراع، بأوراق تقاعده، لأنه لم يبذر معهم، ما يستحق عليه المساعدة، ورد الجميل.. فالناس قد تغيرت نظرتهم اليه، لما يرجون من ورائه، أو يخافون من نفوذه.. أما وقد انزاح من مكانه فكأن لسان حال بعضهم يقول:«حصاة زالت من عثرات الطريق». إن بعض المجتمعات، وخاصة عندما يخف ميزان الإيمان من القلوب، وتتحول الأعمال الى مصالح مادية، ومنافع يتقاضاها الناس، يتحول فيه أفراد من ذلك المجتمع الى طباع بعض الأنعام.. إذ تتغير النظرة حول المتقاعد سواء من زملائه الذين عمل معهم، قبل أيام، وله فيهم قيادة وكلمة.. فصاروا كأنهم لا يعرفونه، بل يتعمدون تجاهله، وعدم قضاء متطلباته التي يستجديها، بدل أن كان هو الآمر الناهي فيها.. فيتركونه نكاية به، جزاءً لما بدر من حيالهم. أو من نظرة المجتمع، الذي تأقلم بالوضع الوظيفي، وسلطتها التي يعتبرها بعضهم مكسباً، حيث يراه ذلك المجتمع فرداً عاجراً، انتهى نفعه، بل هو في حاجة الى من يقف بجانبه ويرعاه. إنها أمور عديدة يحس بها المتقاعد، عندما يلج ذلك الباب، الذي يخيّل إليه أنه معبرالى النسيان، وعدم المبالاة، مما يزيد الطين بلّة عنده، لتزداد الهواجس، وتتكاثر الإيحاءات النفسية، وتضعف المقاومة نفسياً وجسدياً.. حيث تبدأ الأمراض، منها الإيحائي، ومنها العضوي، مما كان كامناً: حتى تقاومه الحيوية والحركة، وتلهي عنه المشاغل ومجالس الأنس.. من دعوات ومسامرات، وصدارة في الرأي وغير ذلك من أمور حيوية تمدّ الأحاسيس بالنشاط، والصدر بالسرور، والبدن والفكر بالنشاط. كل هذا وأمثاله مما يحس به كثيرون من المتقاعدين، الذين لم يستطيعوا أن يكيّفوا أنفسهم، مع التقاعد، ولا أن تتفاعل مشاعرهم مع هذا الوضع، يجعل التقاعد بصورة عامة مصيبة اجتماعية، تشعر الفرد بأنه اقترب من شبح النهاية، مما يحتاج معه كثير من المتقاعدين، الى المواساة، ولاسيما عند من يرى التقاعد، موتاً بطيئاً. وأذكر في هذا الموقف أن مجلساً ضمّنا فيه بعض الضباط العسكريين، وأساتذة جامعات في خارج المملكة، وتطرق الحديث الى التقاعد وأثره عند العسكريين الذين عوّدتهم الحياة العسكرية على التعاظم، وعدم الانصهار في المجتمع: خلقاً وتعاملاً وأدباً.. فقال أحدهم: نحن بحكم حياتنا العسكرية، التي بنيت على أنظمة غربية، ترفع مكانة الضابط عمّن دونه، من المدنيين العسكريين، نحسد المدنيين عندما نحال نحن وإياهم على التقاعد، إذ لهم علاقات ولا علاقات لنا، ولهم أرصدة عند الناس ومعارف، ولا شيء لنا، ويستطيعون أن يتكيّفوا مع المجتمع، بالتعامل والعمل، ولا نستطيع، ولديهم ما يشغل فراغهم قراءة وزيارات، ونحن تكثر عندنا الهواجس، ونبدأ في الإنعزال وتساورنا الكآبة. ثم تنهال علينا الأمراض العديدة، مما يجعل فراغنا كلّه في العيادات، وبين جدران المستشفيات.. هذه الأمور، جعلت الأطباء يلتفتون الى هذه الشريحة الكبيرة من المجتمع، لدراسة ما يجب عمله من أجلهم نفسياً وصحياً واجتماعياً.. وأعمالهم تلك ما هي إلا أعمال مادية، خالية من الروحانية.. قد يجدي بعضها أولا يجدي. وغاب عنهم شيء مهم، وهذا علاج لا يصرف إلا في صيدلية الإسلام، هو تنظيم الوقت وشغل هذا الفراغ، بعمل أكبر من الأعمال المطلوبة من الإنسان الرياضي والدنيوي.. ذلك أنه انتهى من عمل الدنيا التي كرّس جهده ودراسته من أجلها، وبقي عليه الاجتهاد في تحسين العمل الأخروي، الذي خلق من أجله، وهو سرّ وجوده في هذه الحياة. لقد أثار انتباهي في إحدى الدول العربية حالة، وجدت لها نقيضاً في بلد عربي آخر، يتعلّق بالمتقاعدين.. الحالة الأولى: نبّهني إليها شخص من تلك الديار، عن مقهى يرتاده بعض كبار السن المحالين على التقاعد، من دوائر متعددة، وإذا بهم قد نظمّوا أنفسهم، كما كانوا وقت العمل، يقوم أحدهم لصلاة الفجر، ثم يقرأ مع من بقي عنده من زوجة وأولاد ما تيسر من القرآن، حزب لكل واحد منهم.. ثم تقوم الزوجة لإعداد مائدة الإفطار المتعوّد عليه. بعد ذلك، يقوم رب الأسرة لتجديد الوضوء وأداء ركعتي الضحى.. ويلبس ملابسه المعتادة للعمل، لتوصله الحافلة عامة أو خاصة، الى ذلك المقهى في وسط البلد. يلتقي الصحب في ذلك المقهى في وقت متقارب، يمثل وقت الدوام الرسمي المعتاد للدوام، عندما كانوا على رأس العمل، ويتجمعون حلقاً في قراءة صحف اليوم، وتبادل الأحاديث، مع تناول ما يتيسر من المرطبات أو الشاي كلٌّ بحسب رغبته.. وقد حرصوا جميعاً على أن يكون المذياع في هذا المقهى على إذاعة القرآن الكريم، وما يأتي معه من أحاديث مفيدة، وقد يأتي أحدهم ببعض الكتب في الحديث أو الفقه أو التاريخ، للبحث عن مسألة جرى النقاش فيها، ولا ينسون حديث الذكريات. فإذا جاء وقت صلاة الظهر، تهيأوا لها، وذهبوا لأدائها جماعة في مسجد قريب من ذلك المقهى، وعند الساعة الثانية ظهراً، يأخذ كل منهم عصاه، ويتفقد هندامه، في انتظار الحافلة التي تعوّد عليها كل يوم لتنقله الى منزله، فيأتي إليه، وكأنه عائد من عمله. فهؤلاء كيَّفوا أنفسهم مع تنظيم يربطهم بمن يماثلونه في السن، والفكر والذكريات، والعاطفة الدينية، فكأن العمل عندهم لم يتغيّر، إلا من حالة الى حالة، مثلما ينقل الموظف من عمله السابق، إذا ترفع الى عمله الجديد، الذي قد يختلف في نوعية العمل، لكن الجوهر لم يتغيّر، والتنظيم اليومي لم يتبدل.. وإنما وجهوه الى ما يفيد أكثر.. ولذا، فقد لمست من هؤلاء، عندما شوقني صاحبي، الى الوقوف على ذلك المقهى، والاطلاع على تنظيم هؤلاء في أيامهم المنتظمة، أنهم سعداء، وأنهم استثمروا وقت فراغهم فيما ينفع، ولم يغيرهم التقاعد الى حال ثانية، كما حصلت للنوع الآخر.. لأن هؤلاء من نشأتهم وعقيدة الإيمان راسخة في قلوبهم، والمحافظة على الشعائر مستديمة معهم. الحالة الثانية.. في بلد آخر فيه الطائفية منتشرة، وعدم المحافظة سائد، ذكر لي: أن المتقاعدين فيه لهم مقهى يلتئم فيه بعض الشمل، لأن لكل نوع ارتباطاً مع نوعه، كما يروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: نزلنا الكوفة بليل فنزل الأخيار على الأخيار، ونزل الأشرار على الأشرار.. وبعضها ينسب هذه المقالة لغير عمر بن الخطاب، ولكن الذي يهمُّنا فيها المغزى، لا التحقيق. هذا المقهى الذي دفعني إليه من تحدثت إليه عن المقهى السابق، وما أعجبني فيه من التنظيم، وعدم وجود منكرات فيه، بل إن روّاده يعين بعضهم بعضاً على أعمال الخير، فهم كالجليس الصالح، الذي جاء الأثر فيه: إما أن يحزيك، وإما أن تجد منه ريحاً طيباً، لأنه كحامل المسك.. كما جاء بذلك الأثر الصحيح. ليشدني نقيض له ينطبق عليه الشقّ الثاني من هذا الأثر، وهو «وجليس السوء، كمثل نافخ الكير، إما أن يحرق ثيابك، أو تجد منه ريحاً كريهاً». قال صاحبي: سأريك مقهى في هذا البلد يختلف عما رأيت في البلد الآخر، ولكل وجهة هو مولّيها.. فإن رواد هذا المقهى يأتون إليه صباحاً، كل قد أخذ زينته في لباسه، وفي تلميع حذائه، ومن لم يلمعه في المنزل، فإنه منذ أن يصل يطلب من صاحب المقهى احضار من يقوم بهذه المهنة، وهم كثيرون.. يمدّ إليه رجليه في تعاظم، رافعاً أنفه، ينفث على هذا العامل البسيط، الذي أحوجته المعيشة الى هذه المهنة، وما تدرّه من دخل ضعيف: دخان سيجارته أو الأخبث ريحاً: السيجار، فيدخل في أنف العامل أكثر مما يطير في الهواء. لا يمدّ له أجرته القليلة إلا باليد اليسرى، وهو مشيح النظر فيه.. وان تكلم فبكلمات بذيئة، وسباب ولعان.. يتجمع روّاد هذا المقهى، واحداً بعد الآخر.. يتقدّم أحدهم، ويتأخر الباقون.. يلتقون بدون سلام ولا تحية، كأنهم غاضبون على أنفسهم، وعلى المجتمع أيضاً. لا يريدون من صاحب المقهى فتح المذياع، لأن ما في الصحف من أخبار كافية، بل يحثونه على أنواع من الأغاني يطرب لها بعضهم.. بل قد رأيت في مقهى مماثل، من يجعل رأسه على مسند الكرسي، بعد أن قلب طريقة الجلوس، ليصغي لبعض الأغاني التي كانت تعجبه، ويبكي معها بكاء تسمع شهيقه. أما سلوتهم في هذا المقهى، فهو في لعب الشطرنج والنّرد، ومما يزيد الإثم أنهم يجعلون ذلك على عوض مالي، لتصبح رغباتهم في قطع الفراغ منحصرة في: القمار، والدخان والأغاني والكلام البذيء. تمر صلاة الظهر ولا يتحركون.. ولا رغبة عندهم في الصلاة: لا جماعة ولا فرادى، حتى يأتي وقت انتهاء الدوام فيتحركون لمنازلهم كالمعتاد لمن خرج من دوامه اليومي في العمل.. ولئن اتفق الفريقان في تنظيم الوقت حتى لا يشعروا بالفراغ، فقد اختلفا في كيفية شغل هذا الفراغ، بين ما هو نافع وما هو ضار، وما له نتيجة مرتقبة مع هذه السن المتقدمة.. لكل منهما.. فمن أحسن فلنفسه، ومن أساء فعليها.. ولكن لا ننسى أن النشأة لها دور كبير في هذا الاتجاه. )للحديث بقية( عبدالله بن الزبير وأمّه: لما زاد الحصار على ابن الزبير، كما ذكر ابن كثير في تاريخه، صار أهل مكة يخرجون الى الحجاج، ويتركون ابن الزبير، حتى خرج إليه قريب من عشرة آلاف فأمّنهم، وقلَّ أصحاب ابن الزبير جداً، حتى خرج الى الحجاج: حمزة وخبيب ابنا عبدالله بن الزبير، فأمّنهم ودخل ابن الزبير على أمه فشكا إليها خذلان الناس له، وخروجهم الى الحجاج، حتى أولاده وأهله، وأنه لم يبق معه إلا اليسير، ولم يبق لهم صبر ساعة، والقوم يعطونني ما شئت من الدنيا، فما رأيك؟. قالت: يا بني أنت أعلم بنفسك، إن كنت تعلم أنك على حق، وتدعو الى حق، فاصبر عليه، فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكن من رقبتك يلعب بها الغلمان من بني أمية، وإن كنت تعلم أنك إنما أردت الدنيا، فلبئس العبد أنت؟. أهلكت نفسك، وأهلكت من قتل معك، وإن كنت على حق، فما وهن الدين، والى كم خلودك في الدنيا؟. القتل أحسن. فدنا منها فقبّل رأسها.. وقال: هذا والله رأيي، ثم قال: والله ما ركنت الى الدنيا، ولا أحببت الحياة فيها، وما دعاني الى الخروج إلا الغضب لله ، أن تُستحل حرمته، ولكني أحببت أن أعلم رأيك، فردتني بصيرة مع بصيرتي، فانظري يا أمّاه، فإني مقتول في يومي هذا، فلا يشتدّ حزنك، وسلِّمي لأمر لله، فإن ابنك لم يتعمد إتيان منكر، ولا عمل فاحشة قط، ولم يجر في كلمة الله، ولم يغدر في أمان، ولم يتعمد ظلم مسلم ولا معاهد، ولم يبلغني في عامل فرضيته، بل أنكرته، ولم يكن عندي آثر من رضا ربي عزوجل، اللهم إني لا أقول هذا تزكية لنفسي، اللهم أنت أعلم بي مني ومن غيري، ولكني أقول ذلك تعزية لأمي، لتسلو عنّي. فقالت أمه: إني لأرجو من الله، أن يكون عزائي فيك حسناً، إن تقدّمتني أو تقدّمتك، ففي نفسي، أخرج يا بني حتى انظر ما يصير إليه أمرك. فقال: جزاك الله يا أمه خيراً، فلا تدعي الدعاء قبل وبعد، فقالت: لا أدعه أبداً لمن قتل على باطل، فلقد قتلت على حقّ، ثم قالت: اللهم طوِّل هذا القيام، وذلك النحيب، والظمأ في هواجر المدينةومكة، وبرّه بأبيه وبي، اللهم إني قد سلمته لأمرك فيه، ورضيت بما قضيت، فقابلني في عبدالله بن الزبير بثواب الصابرين الشاكرين، ثم أخذته إليها فاحتضنته لتودّعه، واعتنقها ليودعها، وكانت قد أضرّت في آخر عمرها. فوجدته لابساً درعاً من حديد، فقالت: يا بني ما هذا لباس من يريد ما نريد من الشهادة؟. فقال: يا أمّاه إنما لبسته لأطيب خاطرك، وأسكن قلبك به، فقالت: لا يا بني، ولكن انزعه. فنزعه وجعل يلبس بقية ثيابه، ويشتد، وهي تقول: شمِّر ثيابك، وجعل يتحفظ من أسفل ثيابه لئلا تبدو عورته إذا قتل، وجعلت تذكِّره بأبيه الزبير وجده أبي بكر، وجدَّته صفية وخالته عائشة وترجيه القدوم عليها إذا هو قتل شهيداً، ثم خرج من عندها، فكان ذلك آخر عهده بها رضي الله عنهما، وعن أبيه وأبيها )البداية والنهاية 8:400401(.