قفزت وسائل الاتصال قفزات مذهلة بسبب التقنيات التي اكتشفها العقل البشري وطورها تطويراً سريعاً ومؤثراً، وأصبح التعامل مع هذه الوسائل محفوفاً بالمخاطر من كل نوع عقدية وفنية وخلقية إلخ... اذا اردنا ان نحدد إطاراً للحديث او ان نضرب مثالا لتوضيح الصورة فلن نجد افضل من واقع الانترنت للتدليل على صحة الفرض الذي افترضناه وخطر التوقعات التي يمكن ان تحدث بسبب الاكتشافات التقنية المتسارعة، ومن ثم حقيقة الضرورة لضوابط تحكم عملية التعامل مع هذه الوسيلة التقنية وغيرها من وسائل التقنيات بما يحقق الفائدة منها دون اضرار بالآخرين. المؤكد حقيقة وواقعا ان سوق الانترنت هي سوق حرة مفتوحة ولكن ما يميزها على غيرها من الأسواق هو انها لا تعترف بفوارق الزمان والمكان حيث يستطيع جميع سكان الأرض من شرقها وغربها وشمالها وجنوبها التعامل مع هذه السوق في وقت واحد ودون التأثر بظروف المناخ وفارق التوقيت. ولكن ذلك لم يمنع من وجود ممارسات سيئة مضرة بالدين والخلق في خضم معاملات هذه السوق الرائجة، وهنا كان من الطبيعي ان تنشأ ردة فعل لمواجهة هذا الانحراف والشذوذ، وكان من الطبيعي كذلك ان تختلف ردة الفعل باختلاف قدرات التفكير عند فاعل المواجهة ومحصوله المعرفي عن كيفية عمل هذه السوق والتطورات التي تحدث فيها باستمرار ومدى قدرته على وضع تصورات وتوقعات لما يمكن ان يصل اليه تأثيرها. اوضح عناصر سياسة المواجهة هو الحزم المتمثل في حجب جزء من نشاطات هذه السوق عن طريق المرشحات الالكترونية والبروكسيات، هذا الحجب حقق جزءا من الهدف ولكنه انما يثمر مع الذين لا يملكون ادوات قادرة على تخطي هذه المرشحات، أما الذين يملكون هذه الأدوات فهذه المرشحات لا تعيقهم عن الوصول الى أرقة هذه السوق مهما كانت موحلة او منتنة!! والعقلاء يدركون ان في سياسة الحجب خيرا كثيرا انطلاقا من قاعدة «ما لا يدرك كله لا يترك كله» وانه اذا كان هناك من يستطيع لمخزونه المعرفي المتقدم ان يتجاوز عقبة المرشحات فان الكثرة الكاثرة لا تملك هذه القدرة وبالتالي فان حمايتها من الانحراف ومن المؤثرات السلبية مسؤولية وواجب الجهة القادرة على توفير الحماية، تماما كما تفعل السدود مع فيضانات الأمطار، قد لا تمنعها ولكنها تخففها حتما. ثم ان العقلاء يدركون كذلك ان التطورات التقنية المتقدمة والاكتشافات المذهلة التي تولد مع اشراقة كل يوم تهدد سياسة الحجب وذلك حين تصبح اجهزة الاستقبال من الأقمار الصناعية بحجم جهاز النقال او أصغر في متناول الجميع وبأسعار زهيدة، وتحت حماية مظلة التجارة العالمية المفتوحة للأدوات والنشاطات حسنها وقبيحها نافعها وضارها، وهذا أمر متوقع حدوثه بين عشية وضحاها والذي يقارن بين أسعار وتقنيات اجهزة استقبال الفضائيات في الأمس واليوم يدرك ان اجهزة استقبال الانترنت مقبلة على تطورات تقنية مماثلة ان لم تكن اعظم كما تشير الدلائل والمؤشرات التي تحملها لنا أخبار كل يوم جديد. اذن فسياسة الحجب لن تستطيع المقاومة لوحدها لأن الأمر يحتاج الى مواجهة وسياسة الحجب لا تملك أدوات وقدرات المواجهة لأنها في موقع الدفاع والمدافع في الغالب يقع في اخطاء وتعاني متاريسه من الأيام من ثغرات وهكذا، فلا بد من تقوية دفاعاته بقدرات أخرى. ولعل اكبر دليل على هذا الاستنتاج والتصور هو ما اكتشفته جريدة الجزيرة من استخدام بروكسي مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية من قبل محترفين بدلا من بروكسيات مقدمي الخدمة لمدة طويلة دون علم المدينة. وقد يسأل سائل: ما كيفية المواجهة المطلوبة؟ والجواب ان ذلك يتحقق عن طريقين معا، اما اولهما وأهمهما فهو التوعية المكثفة والاستفادة من العوامل المؤثرة القادرة على ايقاظ الضمير الوازع الكامن في النفوس ولا يشكك عاقل في ان العامل الديني من اكثر العوامل تأثيرا وأهمية، ولعل مما يزيد تأثير هذا العامل ان الناس في بلادنا مفطورون على الخير غالبا فلذلك تسهل عملية رد الشارد عن السرب الى سربه بالحكمة والموعظة الحسنة والأسلوب الحكيم. أما الطريق الثاني فهو الحزم في تطبيق انظمة الحماية وتتبع المخالفين والسعي الدائم للتعرف على حيلهم ومجابهتها في حينها، والذين يبتكرون حيل وأساليب التخطي هم بشر وهبهم الله عقولا ومواهب غير انهم استغلوها فيما لا يفيدهم في دينهم ولا يحقق لهم فائدة حقيقية في دنياهم، وبعضهم قد يستغلها في هذا المجال لمجرد التسلية فاذا اتضح له خطرها على دينه ودنياه عاد لصوابه. ثم ان جانب الخير فيه موهوبون كذلك بامكانهم اختراع اساليب ووسائل للايقاع بالمخالفين واهل الشر والغواية فلماذا لا تستثار هممهم ولماذا لا تذكى جذوة حماسهم ولا سيما ان داعي الخير في الانسان أقوى؟. حين أدعو الى تشجيع الموهوبين من أجل العمل على اظهار مواهبهم لحماية افكار وسلوك افراد الأمة وتطهيرها من الانحرافات فانما ذلك نابع من ادراكي ان تشجيع الوهوبين في مجال الخير ودعمهم سيحقق فوائد لا تحصى، بل انه اذا أتيحت الفرص لهؤلاء الموهوبين في مجال الخير ربما ينجذب اليهم بعض او كثير من المخالفين او الممارسين للشر على سبيل الهواية او التسلية او القضاء على وقت الفراغ او الرغبة في ابراز القدرة والموهبة والتميز عن الآخرين ونحو ذلك. المؤكد ان عملية الحماية المطلوبة بحاجة الى ضوابط تنطلق من الذات عبر محطات تنقية يضخها الضمير الحي في داخل الإنسان ذاته، ثم بعد ذلك تأتي عملية الوضع الخارجي أي عملية التنظيم والتقنين ونحوها. والملحوظ ان النظرة الى وسيلة الإنترنت تفاوتت عند أهل الخير تفاوتا بينا حتى وصلت الى طرفي نقيض. وظهر من يقول بحرمتها بإطلاق وهذا ليس من الرشد في شيء بأية حال من الأحوال، فالإنترنت وسيلة من الوسائل والمقرر ان الوسائل محايدة يستخدمها البر والفاجر وإنما تكتسب حلها وحرمتها، حسنها وقبحها من فعل مستخدمها ونيته وأهدافه. نعم ظهرت ممارسات خاطئة في استخدام وسيلة الإنترنت ولاسيما في المقاهي التي يرتادها الشبان المراهقون، ولكن هذه الممارسات ليست مسوغا للقول بتحريم الوسيلة ذاتها بإطلاق، كما أنه يمكن علاج هذه الممارسات عن طريق إحياء وتنشيط الضوابط الكامنة في ذات الإنسان وعن طريق الضوابط المحروسة بوزع السلطان والتي تنظم عملية استخدام الوسيلة لحماية الأفراد والمجتمع من سيئاتها. تماما كما أن السيارة قد تقتل إذا استخدمت استخداما سيئا فكذلك كل وسيلة لها جوانب مضيئة وأخرى مظلمة ولها آثار حسنة وأخرى سيئة. وعلاج ذلك كله يتم عن طريق توعية الضمير ووضع الضوابط الحازمة التي تكفل سلامة عملية الاستفادة من كل وسيلة وليس منع الوسيلة ذاتها وإلا أصبحنا دون وسائل ألبتة. في مضمار التوعية الدينية بالضوابط المطلوبة لاستخدام الوسائل التقنية وأهمها على الإطلاق وسيلة الإنترنت تحرقنا حرارة كثير من الأسئلة مثل: هل أعطى الخطباء على منابر الجمع والعلماء في ندواتهم العلمية وفي حلقات دروسهم أهمية لهذه التوعية؟ بل يمكن أن يسأل سائل ومعه كل الحق هل هناك أية درجة من درجات التوعية المؤثرة في مجال ضوابط استخدام التقنيات؟ ناهيك أننا إذا قلنا توعية دينية فإنما نقصد تنوع الوسائل والأساليب والمناهج واستثمار المناسبات والنزول الى اللجة مما يقتضيه واجب البيان. يمكنني وضع آليات محددة من واقع تصوري وأفكاري وأنا على يقين أن لدى غيري آليات أفضل أو مماثلة أتمنى أن تجد طريقها للبيان فمن ذلك: 1 تدريب رجال الحسبة على الكيفيات المناسبة لاستخدام هذه الوسيلة وكشف حيل المتلاعبين فيها وعقد ندوات علمية ودورات تدريبية متخصصة ومطولة لهؤلاء الرجال لاتقان خصائص الوسيلة لأن من شروط الأمر والنهي العلم. ولا شك ان العلم بخصائص الوسيلة المراد ضبطها هو من العلم المطلوب. 2 الاستفادة من قدرات الموهوبين في التعامل مع هذه الوسيلة وتوجيه مواهبهم نحو الفائدة الحقيقية للنفس وللغير وتشجيعهم على العمل الجاد لمواجهة طوفان الشر القادم مع أمواج الوسيلة ذاتها. 3 تكثيف التوعية الدينية بالضوابط الشرعية لاستخدام الوسائل التقنية عن طريق الخطب والمواعظ والندوات والحلقات العلمية والزيارات الميدانية للمستخدمين في مواقع الاستخدام والعمل وللمدارس والتجمعات البشرية من قبل العلماء والخطباء. وكذلك ضرورة تخصيص جزء كبير من الدراسات العلمية الجادة في هيئة كبار العلماء والمجامع الفقهية والجامعات الإسلامية ومجلس الشورى والوزارات والمؤسسات والهيئات والمراكز المعنية لتفعيل هذه التوعية والعمل من أجل تحقيق أهدافها. إن المطالبة بضوابط دينية وخلقية تضبط ممارسة الطبيب مع مريضه في عمل يتعلق ببدنه وهو ما شغل حيزا كبيرا من وسائل الإعلام ليست أهم من المطالبة بضوابط تحكم الممارسات التقنية التي تتعلق بعقيدة الإنسان وفكره. ثم لي بعد هذا كله أن أسأل: أليس من المؤسف بل من المفجع ان نسمع عن تزايد الدعوة من العقلاء في بعض البلاد الكافرة لوضع ضوابط أخلاقية لاستخدام الوسائل التقنية وعلى رأسها الإنترنت ولانجد استثمارا حقيقيا للوازع الديني في داخل كل مسلم وهو أقوى تأثيرا بكثير من الوازع الخلقي؟ ثم أليس واجب تنشيط الوازع الديني من الواجبات التي تطوق عنق كل مسلم قادر انطلاقا من مسؤولية شرعية سيحاسبه ربه عليها؟ أعود فأؤكد ان التوعية الدينية الحكيمة والمكثفة هي مفتاح الضوابط المطلوبة لاستخدام الوسائل التقنية. هذا وبالله التوفيق...