بعد مرور أكثر من قرن على أفكار علمية مُغايرة، بدأ العلماء يكتشفون أن الأعصاب في دماغ الإنسان البالغ قادرة على إعادة تشكيل روابطها وتنظيمها. واعتادت النظريات العلمية على حصر هذه القدرة في مرحلتي الطفولة والمراهقة. ففي إطار الدراسة التي نُشرت على الموقع الإلكتروني لمجلة «بروسيدنغز» الخاصة ب «أكاديمية العلوم الطبية» الأميركية، كشف فريق علمي قادته البروفسورة إيلي نديفي، أستاذة علم البيولوجيا العصبية في «معهد بيكوير للتربية والذاكرة»، أن نوعاً محدداً من الأعصاب المعنية بمجموعة الإضطرابات المتصلة بمرض التوحّد «أوتيزم» Autism يستطيع تغيير بنيته وتوصيلاتها. وتتركز الأعصاب المشار إليها في شريط من الأنسجة الدماغية لا تتجاوز سماكته أربع محارم ورقية، ويقع عند الجانب الأعلى من الطبقة الثانية لقشرة الدماغ. والمعلوم أن العلماء يرون في تلك القشرة مركزاً أساسياً للأعمال المتصلة بأنواع التفكير والسلوك المُخطّط والذاكرة المعرفية عند الإنسان. تنظيم الدماغ وقدراته معرفياً وتحدثت نديفي التي تتركز أبحاثها في «معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا» على درس التكامل بين تنظيم الدماغ بيولوجياً وقدراته معرفياً، عن هذه الدراسة فقالت: «إنها مثيرة بشكل خاص لأنها تسلط الضوء على ليونة وصلات القشرة الدماغية والهندسة السائدة في الأقسام العليا من الدماغ التي تسهم في عمليتيْ الإدراك والمعرفة». وأضافت: «ان الهدف منها يكمن في استخلاص الأدلة التي تُعنى بمساهمة إعادة تشكيل بنية الدماغ على المدى الطويل، عند الإنسان البالغ. وبقول آخر، فإنها تتناول قدرة الدماغ على التغيّر للرد على المعطيات التي تحيط به، مهما تقدم به الزمن». وفي إحدى الدراسات السابقة، راقبت نديفي وزميلها بيتر تي سو، أستاذ الهندسة الحيوية في «معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا»، تغييرات ضخمة في طول الأقسام الأمامية في الخلايا العصبية التي تشكّل معابر للرسائل الكهربائية التي تتنقل بين أعصاب الدماغ أثناء إنجاز أعمالها المتنوّعة. ومن المثير أن هذيْن الأستاذيْن توصلا إلى اكتشاف مفاده أن هذا النمو محصور بنوع محدد من أعصاب الدماغ. ونبّها إلى أن غالبية أعصاب القشرة الدماغية تشهد استقراراً وثباتاً، في الوقت الذي يؤمّن قسم صغير من الخلايا الروابط بين مختلف مناطق تلك القشرة. وفي الدراسة الحالية، ثبت أن المعطيات الوراثية الثابتة لا تحدد، في شكل مسبق، قدرة ذلك القسم من الأعصاب على إعادة تشكيل الروابط. وجرى التأكّد أيضاً من أن التوصيلات بين أعصاب الدماغ في قشرتها، هي التي تفرض عملية إعادة التشكيل. وقالت نديفي: «أن هذه الاكتشافات تشير إلى أن موقع الخلايا هو الذي يحدّد مدى قدرتها على تشكيل الروابط ضمن دماغ الإنسان البالغ». وأضافت: «إن تحديد مظاهر هذا الموقع يتيح فرصة لتحقيق النمو في أي دماغ مستقر فقد نعتمده لتحفيز نمو الخلايا والمناطق التي لا تستطيع عادة التكيّف مع ظروف البيئة المتغيرة». وكذلك رأت نديفي أن «معرفة قدرة الأعصاب على النمو في دماغ البالغ تتيح فرصة تعزيز تلك العملية واكتشاف الظروف التي تسمح للعلماء بالتدخّل فيها، خصوصاً بالنسبة الى الأعصاب التي تُظهر القدرة على التجدّد في مرحلة الرشد».