يرى شاعر فرنسي «أن الشعر يختلف عن الفنون الأخرى» ويكمل «أن في الشعر شيئاً من الطلاسم، إنه يشبه السحر والشعوذات!». وهذا الشعور ينتابك حين تقرأ شعر الفنان الكبير (علي بافقيه). ولقد شعرت شخصياً بهذا وأنا أقرأ ديوانه «رقيات» الذي صدر عن نادي الرياض الأدبي متبوعاً بديوانه القديم نسبياً «جلال الأشجار» والذي كتبت عنه حينها كلاماً قليلاً أهم ما جاء فيه عنوانه وكان «جلال الشعر» وقلت إنه أفضل كتاب لذلك العام بلا منازع. وعلي بافقيه شاعر – بكل ما تحمله الكلمة من معنى ! - ! ، فهو لا يفتعل لحظة الشعر، وهو يكتب القصيدة لتنتهي حين يكون انتهاؤها ضرورياً لإيصال معنى ما، هو فعلاً – هذا المعنى – يشبه السحر. ففي قصيدة المسافة من ديوان (جلال الأشجار) يقول: «قلت صمتي لها / وانقرضتُ، سوى لهفتي وشجايْ/ وأنا: سارقُ النارِ / أحفظ صوانتي بين ضلعي وضلعي / وأوقد ليلاً قِرايْ» بهذه الكلمات القليلة، وهذه الغنائية المتوحشة، وهذه البساطة في الأداء اللغوي يقوم (بافقيه) بأسْرنا! ، هو يتحدث – كما يخيّل لنا - عن نفسه والحقيقة أنه ( يقوم ) ب (بتلخيصنا)!. نحن سرقنا النار!، لكننا لا نتمكن من إشعالها كلما عَنّ لنا ذلك، ويذكرني بالمعلم (يوسف صايغ) وهو يقول في «اعترافات مالك بن الريب»: "أبعدَ الذي كان / يوحَشُ كالذئب وجهي؟ / وأفردُ – مغتربا – بين أهلي؟ / فلا تبتغوني لكم بطلا / إنني... رجل حرّضته المنايا على نفسهِ" القصيدة! وعلي بافقيه أهدى ديوانه هذا الإهداء الآسر «إلى صفية السقاف. أمي. وأول شاعر في حياتي» والجماليات المتعددة المستويات في هذا الإهداء كثيرة فصفية السقاف هي أمه، ولكنها من جهة أخرى: أول الشعراء فيه. لهذا أسمح لنفسي بهذه القراءة المختزلة. لأنه ما لم تقرأ «رقيات وجلال الأشجار» لن يمكننا أن نتفق على أن علي بافقيه شاعر كبير ومفكر كبير أيضاً. وأننا إذْ نكتشف هذا متأخرين فلأن هذه هي (عادتنا)!. فقط: حين يموت الشعراء الكبيرون أو يوشكون على ذلك نبدأ ب حكّ رؤوسنا على مضمون المثل الشعبي العميق «اللّي على راسه بطحا !» !. وعادة نحن نتوهم أن الشاعر يبحث عن المعنى أو فلنقل المضمون الأكثر بعداً من الشكل، والحقيقة هي أن الشاعر الكبير علي بافقيه هو الذي تبحث عنه المضامين وتجده جاهزاً ليصوغها بلغته الشديدة الخصوصية مضامين تزدان بالموسيقى التي لا يستطيع أحد أن ينكر أنها موسيقى بالغة الرهافة ويتموسق معها القارىء ليذهب إلى متعة وعذاب الشعر الحقيقي. لا يعمل بافقيه على اللغة ك(شيء) مستقل. معنى هذا أن اللغة هي شعر بحد ذاتها. ونحن نطوّعها إن أردنا الخلاص من شعرية الكون الماثلة في الرؤى التي نراها ك أناس نعرف أكثر مما يجب أو نعي أكثر مما ينبغي كما يقول المفكر الكبير كولن ويلسون في كتابه المهم – جدّا – اللامنتمي. «جاء امرؤ القيس وناداني من الشموس / أجلسني على الرُّكبْ وقال لي: / جزيرة العربْ / ماءٌ ورملٌ وعنبْ / بناتها ذهبْ / سميتها (رقيّة) !» هكذا يجيء الشاعر محمّلاً بالتاريخ والميثولوجيا والتراث الذي يأتي حيناً مكابراً بل وكاذباً . فما قاله امرؤ القيس هو (ذكرياته) الخاصة عن جزيرة العرب. وما قاله الشاعر هو إنه لم يعد هنالك (ماء) ولا (رمل) ولا (عنب) حيث هجمت خريطة المدن (الكوزموبوليتية) على الصحراء ولم يبق سوى (الرقيات) التي منهن (صفية السقاف) أم الشاعر، وأول الشعراء في حياته!، أفلا تشعرون أن هذا الإهداء هو أكبر من (إهداء)؟! أفلا تشعرون أنه (بيان شعري)؟!. مقدمة لقراءة أعمال (بافقيه) الكاملة؟!. إننا لنكاد نلمس قسمات عليّ الطيبة والمبتسمة على رغم الأحزان. علي بافقيه شاعر أحسن نادي الرياض الأدبي حين طبع ديوانه، بقيادة الدكتور سعد البازعي، الذي ليس جديداً عليه هذا التثمين لشعر حقيقي وشاعر حقيقي.