في الرابعة فجراً، يستقيظ التوأمان فادي وريمون كعادتهما منذ بضعة أعوام. وفي روتين يومي، يرتديان ثياب العمل البالية نسبياً، ويلقيان تحية الصباح على شقيقتهما مارينا، ويُقبلان رأس أمهما الراقدة في الفراش من جراء المرض الذي ينهش جسدها. يزيحان باب منزلهما الضخم بأيديهما الصغيرة ويخرجان إلى العمل، بينما لم تبدأ أشعة الشمس بعد عملها في تبديد ظلمة الليل. لا يعرف التوأمان على وجه التحديد سنوات عمرهما، فريمون يصر على أنه في الحادية عشرة، فيما يقول فادي إنه في الرابعة عشرة! في خلفية سيارة نقل متوسطة الحجم يجلس التوأمان، بينما يقود والدهما الثلاثيني السيارة ببطء في دروب متعرجة وشوارع ضيقة تغيرت معالم استوائها بفعل الطفح المتكرر للصرف الصحي والمحاولات الفاشلة لرصفها. ووسط أجواء خانقة ورائحة نفاذة لم تفلح نسمات الصباح المنعشة في تبديدها، تقطع السيارة رحلتها صعوداً وهبوطاً على منحدرات تلك الهضبة المرتفعة في منطقة المقطم. وبعد خمس عشرة دقيقة من الارتجاج بلا هوادة، تستقر عجلات العربة على أسفلت الطريق العام القريب من صلاح سالم لتأخذ الرحلة مساراً أقل اهتزازاً ولتنفتح رئتا التوأمان على هواء أقل تلوثاً وعالم أكثر اختلافاً. على غير هدى يسير الأب في شوارع المحروسة نصف النائمة. يثابر على البحث عن شيء ما من دون أن يظهر له أثر. يلتفت بعينيه هنا وهناك، لكن لا جديد، إلى أن لمح غايته. أشار إلى التوأمين اللذين يعرفان دورهما جيداً. في لحظات، يهبطان لصيد الزجاجات البلاستيكية وألواح الكارتون بيدين عاريتين من بين أكوام القمامة التي لم ترفعها شاحنات البلدية بعد. يلقيان بحمولتيهما الصغيرتين على ظهر السيارة ويقفزان لينطلق الأب إلى المحطة التالية، أي إلى صندوق القمامة التالي. في الخامسة مساءً وبعد يوم عمل شاق، يعود التوأمان إلى المنزل حاملين حصيلة هذا اليوم الطويل من القمامة التي جمعاها من المنازل وبعض الصناديق، فيلقيان بها في فناء المنزل الواسع المخصص لذلك العمل، ويهرعان إلى الشارع بينما تودعهما نظرات أمهما التي استجمعت بعض قواها الآن، وتستعد هي الأخرى لاستكمال العمل في فرز هذه القمامة مع ابنتها، فهذا هو دورهما. هكذا يقسم العمل داخل الأسر في عزبة الزبالين في منشية ناصر الواقعة فعلياً على صخور هضبة المقطم (جنوبالقاهرة)، ففي منطقة يصل عدد سكانها إلى نحو 65 ألفاً، وفي مستوى معيشة يتجه إلى أسفل خط الفقر بين معظم القاطنين، تتباهى الأسر بكثرة الأبناء. ولهذا جذوره في تحدر معظم أهالي المنطقة من صعيد مصر الذي يتوارث مفهوم "العزوة". "لا عاطلين هنا"، يقول رئيس مجلس إدارة "جمعية روح الشباب" المهتمة بتطوير المجتمع والتعليم في عزبة الزبالين عزت نعيم، "فقوام الأسرة لا يقل عن ستة أفراد ودائماً ما يختار الأب اثنين من الذكور واثنتين من الأناث للعمل معه: يخرج الذكور مع الأب في رحلة جمع القمامة، بينما يتمحور دور الفتيات والأمهات حول فرزها وتصنيفها داخل المنزل، وإذا رُزق الأب بأكثر من هذا العدد فقد يرسل بعضهم إلى المدارس، وإن كان التعليم آخر ما يفكر فيه رب الأسرة هنا، ما أدى إلى انتشار كبير للأمية في المنطقة". ولا تنتشر الأمية فقط بفعل طبيعة الحياة، بل تلعب قلة عدد المدارس في المنطقة دوراً أساسياً على هذا الصعيد. ويوضح عزت نعيم أن "عزبة الزبالين لا تضم سوى مدرسة واحدة خاصة ذات مصاريف مرتفعه نسبياً، وآخرى حكومية تشهد كثافة عالية في الفصول وبنيه أساسية سيئة، فلا مقاعد ولا دورات مياه آدمية". وتعد المدرستان، ولا سيما الحكومية منهما، مصدراً للطلاب المتسربين من التعليم. لكن فادي وريمون ليسا من هؤلاء المتسربين، فهما لم يلتحقا أبداً بالمدرسة. غير أنهما وجدا فرصة في مدرسة إعادة تدوير المخلفات للأولاد التابعة ل "جمعية روح الشباب". وبعد يوم العمل الطويل، يتحركان سريعاً إلى مقر المدرسة في مبنى متواضع قرب منزلهما، حاملين مجموعة من زجاجات الشامبو الفارغة التي حرصوا على جمعها على مدار بضعة أيام. ومن دون أن يغيرا ملابس العمل، يندفعان إلى هذه القاعة الواسعة التي تضم مقاعد ومناضد عدة، وعدداً من أجهزة الكمبيوتر، فهنا فقط يجدان حياة مختلفة تدمج بين الجد واللعب. تستقبلهما سماح كامل، وهي معلمة في المكان الذي يعد نموذجاً للمدارس المجتمعية التي توفر فرص تعليم خارج المدرسة للأولاد بينما سبقتها في هذا الميدان مدرسة الفتيات التي تعتمد في تعليمهن على إجادة الغزل على الأنوال وصناعة السجاد. تقول كامل إن هذا الأسلوب في التعليم "يتسم بقدرته على إحداث تحول اجتماعي جذري في الأفراد والمجتمعات، فهو تعليم لا يعطي شهادة رسمية أو مؤهلاً دراسياً، لكنه يقيس التحصيل العلمي بالتغيير الذي حدث في اتجاه الفرد وسلوكه ومهاراته وفي قدرته على تغيير واقعه وواقع مجتمعه". هذا الواقع الذي تحرص المدرسة على ربطهم به، عبر ابتكار منهج للتعليم غير النمطي، مصدره البيئة التي يعيش فيها هؤلاء الأطفال ويعملون. وبحسب كامل، فإن المناهج التي يتم تدريسها "لا تعتمد على تعلم الحروف، وانما أصوات الحروف وبعض الكلمات والجمل المرتبطة بأعمال جمع القمامة وفرزها، مما يسهل عملية التعلم والحفظ، كما يتم تقديم مناهج خاصة بمحو الأمية للراغبين في خوض امتحان هذه الشهادة الرسمية". ولا يخضع هذا النوع من المدارس للقواعد التقليدية للمدرسة. فلا مواعيد حضور وانصراف ولا زي موحداً للطلاب، ولا توجد حتى كتب للمناهج، فيما مؤهلات المعلمين متوسطة، كما هي الحال مع كامل ومديرة المدرسة ليلى زغلول التي حصلت على شهادة الثانوية التجارية بعد تخرجها من برنامج محو الأمية في المدرسة المجتمعية للفتيات. وأبواب المدرسة تفتح من التاسعة صباحاً وحتى السابعة مساءً، ليحضر إليها الطالب في الوقت المناسب له ولظروف عمله. ويخصص لكل طالب في المدرسة ملف يوضح المواد التي درسها ومدى تقدمه فيها. وتقدم المدرسة خدمات صحية للطالب وأسرته، مثل التطعيمات الملائمة لظروف العمل، فيما يتضمن المنهج حصص ترفيه وبرامج للثقافة والفنون أدت إلى تأسيس فرقة مسرحية تقدم عروضاً في ساقية الصاوي (مركز ثقافي في منطقة الزمالك)، فضلاً عن تدريب على الكمبيوتر وبرامج إعادة التدوير. وبفضل برامج إعادة التدوير، استطاع فادي وريمون أن يتعلما الحساب. وبحماسة التاجر وشغف التلميذ يدخر التوأمان عبوات الشامبو الفارغة بعد جمعها من المنازل والزبالين في المنطقة، لبيعها للمدرسة مقابل مكافأة تتراوح بين 20 و40 قرشاً، وفقاً لحجم العبوة. وتتسلم المدرسة عبوات الشامبو وتسجلها في جدول وسجل، لتصنيفها بحسب اللون والخامة، مع قطع العبوة ثم تنظيفها من الملصقات الخارجية والغطاء، وتكسيرها بواسطة كسارة موجودة في المدرسة يشرف عليها الأطفال الأكبر سناً في المدرسة مع استخدام أدوات الأمن الصناعي. ثم تتم تعبئة المسحوق في أجولة جاهزة للبيع. وبحسب عزت نعيم، فإن برنامج إعادة التدوير صمم ومول بالتعاون "شركة خاصة كانت تعاني من عملية غش تجاري لمنتجاتها عن طريق إعادة مصانع غير مرخصة تعبئة عبوات منتجاتها الفارغة". أما التوأمان، وبحسب برامج الحساب التي درساها في مدرستهما المجتمعية لإعادة التدوير، فتعلما كيف يحسبان أرباحهما. لكن الربح ليس مادياً فقط، "فالطفل يجني أيضاً ثمرة العلم والخروج من دائرة الأمية"، وفقاً لنعيم، إذ لا يستطيع الطالب أن يشارك في برنامج إعادة التدوير إلا بعد اجتياز عدد معين من الحصص الدراسية، فيستطيع الطالب المشارك في 20 حصة أن يقدم 100 عبوة، ويستطيع الطالب الملتزم بحضور 25 حصة أن يقدم 150 عبوة. ويعرف نعيم هذا الأسلوب ب "الكسب بالتعليم" أو Earning while learning. ورغم أن المدرسة تفتح أبوابها للأطفال الأكبر سناً، فإن كثيرين من أولياء الأمور في منطقة "عزبة الزبالين" يطالبون المسؤولين عن المدرسة بمساعدة أبنائهم الملتحقين بالمدارس الحكومية، بحسب سماح كامل الذي يؤكد أن "النماذج الإيجابية التي تفتخر بها المدرسة كثيرة"، ذاكراً على سبيل المثال 15 طالباً استطاعوا أن يكملوا تعليمهم حتى حصلوا على شهادة الثانوية التجارية، وأحدهم أنهى تعليمه والتحق بالعمل في "جمعية روح الشباب"، فيما اهتم آخر بتعلم اللغة الانكليزية واستطاع السفر إلى الولاياتالمتحدة، وعاد للعمل مدرساً للغة الانكليزية في المدرسة. كما استفاد كثيرون من خريجي المدرسة (التي لا تحدد صفوفاً دراسية أو عدداً لسنوات الدراسة) بإصدار رخص قيادة سيارات بعد حصولهم على شهادات محو الأمية. وغير بعيد من مقر المدرسة، يسير التوأمان فادي وريمون بعد أن تخطت الساعة السابعة مساءً، عائدين إلى منزلهما ليفاجئهما تجمع حزين للأقارب والجيران حول أمهما على فراش الموت تُنازع سكراته وتوصي الأب المكلوم بأبنائها. وحين ينتهى اليوم، يدرك التوأمان أن الحياة لن تعود أبداً كما كانت، فبعد موت الأم ذهبت شقيقتهما للإقامة في أحد الأديرة، والأب بالكاد يستطيع العناية بنفسه وينخرط في العمل الذي لا يجني منه إلا الفتات، ولم يبق للتوأمين سوى مدرستهما المجتمعية التي وجدا فيها الملجأ والملاذ من قسوة معيشتهما.